95- وانتهي أمرهم وزالت آثارهم ، كأنهم لم يقيموا في ديارهم ، ونطق حالهم بما يجب أن يتنبه له ويعتبر به كل عاقل ، ألا هلاكاً لمدْين ، وبُعداً من رحمة الله كما بَعدت ثمود من قبلهم{[98]} .
{ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ْ } أي : كأنهم ما أقاموا في ديارهم ، ولا تنعموا فيها حين أتاهم العذاب .
{ أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ ْ } إذ أهلكها الله وأخزاها { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ْ } أي : قد اشتركت هاتان القبيلتان في السحق والبعد والهلاك .
وشعيب عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته لقومه ، وفي قصته من الفوائد والعبر ، شيء كثير .
منها : أن الكفار ، كما يعاقبون ، ويخاطبون ، بأصل الإسلام ، فكذلك بشرائعه وفروعه ، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد ، وإلى إيفاء المكيال والميزان ، وجعل الوعيد ، مرتبا على مجموع ذلك .
ومنها : أن نقص المكاييل والموازين ، من كبائر الذنوب ، وتخشى العقوبة العاجلة ، على من تعاطى ذلك ، وأن ذلك من سرقة أموال الناس ، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين ، موجبة للوعيد ، فسرقتهم - على وجه القهر والغلبة - من باب أولى وأحرى .
ومنها : أن الجزاء من جنس العمل ، فمن بخس أموال الناس ، يريد زيادة ماله ، عوقب بنقيض ذلك ، وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله : { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ْ } أي : فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم .
ومنها : أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله ، ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة ، وأن ذلك خير له لقوله : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ْ } ففي ذلك ، من البركة ، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق ، وضد البركة .
ومنها : أن ذلك ، من لوازم الإيمان وآثاره ، فإنه رتب العمل به ، على وجود الإيمان ، فدل على أنه إذا لم يوجد العمل ، فالإيمان ناقص أو معدوم .
ومنها : أن الصلاة ، لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين ، وأنها من أفضل الأعمال ، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها ، وتقديمها على سائر الأعمال ، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهي ميزان للإيمان وشرائعه ، فبإقامتها تكمل أحوال العبد ، وبعدم إقامتها ، تختل أحواله الدينية .
ومنها : أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء ، فإنه أمانة عنده ، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق ، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله ، لا كما يزعمه الكفار ، ومن أشبههم ، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون ، سواء وافق حكم الله ، أو خالفه .
ومنها : أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به ، وأول منته عما ينهى غيره عنه ، كما قال شعيب عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ْ } ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ْ }
ومنها : أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم ، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان ، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها ، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها ، وبدفع المفاسد وتقليلها ، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة .
وحقيقة المصلحة ، هي التي تصلح بها أحوال العباد ، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية .
ومنها : أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح ، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ، ما لا يقدر عليه ، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه ، وفي غيره ، ما يقدر عليه .
ومنها : أن العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين ، بل لا يزال مستعينا بربه ، متوكلا عليه ، سائلا له التوفيق ، وإذا حصل له شيء من التوفيق ، فلينسبه لموليه ومسديه ، ولا يعجب بنفسه لقوله : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُْ } .
ومنها : الترهيب بأخذات الأمم ، وما جرى عليهم ، وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر .
كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى .
ومنها : أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ، ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده ، ولا عبرة بقول من يقول : " إن التائب إذا تاب ، فحسبه أن يغفر له ، ويعود عليه العفو ، وأما عود الود والحب فإنه لا يعود " فإن الله قال : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ْ }
ومنها : أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة ، قد يعلمون بعضها ، وقد لا يعلمون شيئا منها ، وربما دفع عنهم ، بسبب قبيلتهم ، أو أهل وطنهم الكفار ، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه ، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين ، لا بأس بالسعي فيها ، بل ربما تعين ذلك ، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان .
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار ، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية ، لكان أولى ، من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية ، وتحرص على إبادتها ، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم .
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين ، وهم الحكام ، فهو المتعين ، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة ، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة ، والله أعلم .
{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أى : كأن هؤلاء الهلكى من قوم شعيب ، لم يعيشوا فى ديارهم قبل ذلك عيشة ملؤها الرغد والرخاء والأمان . . .
يقال : غنى فلان بالمكان ، إذا أقام به وعاش فيه ف نعمة ورغد . . .
{ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } أى : ألا هلاكا مصحوبا بالخزى واللعنة والطرد من رحمة الله لقبيلة مدين ، كما هلكت من قبلهم قبيلة ثمود .
وهكذا طويت صفحة أخرى من صفات الظالمين وهم قوم شعيب . . عليهم السلام - كما طويت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح ولوط - عليه السلام- .
هذا ، ومن أهم العبر والعظات التى تتجلى واضحة فى قصة شعيب مع قومه كما جاءت فى هذه السورة الكريمة :
أن الداعى إلى الله لكى ينجح فى دعوته ، عليه أن ينوع خطابه للمدعوين ، بحيث يشتمل توجيهه على الترغيب والترهيب ، وعلى الأسباب وما تؤدى إليه من نتائج ، وعلى ما يقنع العقل ويقنع العاطفة . . .
ففى هذه القصة نجد شعيبا - عليه السلام - يبدأ دعوته بأمر قومه بعبادة الله - تعالى - ، ثم ينهاهم عن أبرز الرذائل التى كانت منتشرة وهى نقص المكيال والميزان ، ثم يبين لهم الأسباب التى حملته على ذلك : { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } .
ثم ينهاهم نهيا عاما عن الإِفساد فى الأرض { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } .
ثم يرشدهم إلى أن الرزق الحلال مع الإِيمان والاستقامة ، خير لهم من التشبع بزينة الحياة الدنيا بدون تمييز بين ما هو صالح وما هو طالح : وبقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين . .
ثم يذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بما يأمر به نفسه ، ولا ينهاهم إلا عما ينهاها عنه وأنه ليس ممن يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت . . . } .
ثم يذكرهم بمصارع السابقين ، ويحذرهم من أن يسلكوا مسلكهم ، لأنهم لو فعلوا ذلك لهلكوا كما هلك الذين من قبلهم : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ . . . } .
ثم يفتح لهم باب الأمل فى عفو الله عنهم متى استغفروه وتابوا إليه : { واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ }
ثم تراه يثور عليهم عندما يراهم يتجاوزون حدودهم بالنسبة لله - تعالى - وللحق الذى جاءهم به من عنده - سبحانه - : { أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ . . . } .
وهكذا نجد شعيبا - عليه السلام - وهو خطيب الأنبياء كما وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرشد قومه إلى ما يصلحهم ويسعدهم بأسلوب حكيم ، جامع لكل ألوان التأثير ، والتوجيه السديد .
وليت الدعاة إلى الله فى كل زمان ومكان يتعلمون من قصة شعيب . . عليه السلام - مع قومه أسلوب الدعوة إلى الله - تعالى .
خلت منهم الدور ، كأن لم يكن لهم فيها دور ، وكأن لم يعمروها حينا من الدهر . مضوا مثلهم مشيعين باللعنة ، طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب :
( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، كأن لم يغنوا فيها . ألا بعدا لمدين ، كما بعدت ثمود . )
وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود ، حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد .
{ كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يقيموا فيها . { ألا بُعداً لمدين كما بعِدَت ثمود } شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة ، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم . وقرئ { بعُدت } بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك ، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور .