ومع كل هذا الإعراض والعناد . . فقد حكت لنا الآيات بعد ذلك ، أن نوحا - عليه السلام - قد واصل دعوته لهم بشتى الأساليب . فقال - كما حكى القرآن عنه - : { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } .
وقوله : { جِهَاراً } صفة لمصدر محذوف . أى : دعوتهم دعاء جهارا . أى : مجاهرا لهم بدعوتى ، بحيث صارت دعوتى لهم أمامهم جميعا .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمّ إِنّيَ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّمَآءَ عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً } .
يقول : ثُمّ إنّي دَعَوْتُهُمْ إلى ما أمرتني أن أدعوهم إليه جِهارا ظاهرا في غير خفاء ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثُمّ إنّي دَعَوْتُهُمْ جِهارا قال : الجهار الكلام المعلن به .
ارتقى في شكواه واعتذاره بأنَّ دعوته كانت مختلفة الحالات في القول من جهر وإسرار ، فعَطْف الكلام ب { ثم } التي تفيد في عطفها الجمل أن مضمون الجملة المعطوفة أهم من مضمون المعطوف عليها ، لأن اختلاف كيفية الدعوة ألصق بالدعوة من أوقات إلقائها لأن الحالة أشد ملابسة بصاحبها مِن ملابسة زمانه . فذَكَر أنه دعاهم جهاراً ، أي علناً .
وجِهار : اسم مصدر جهر ، وهو هنا وصف لمصدر { دَعَوْتُهم } ، أي دعوةً جهاراً .
وارتقى فذكر أنه جمع بين الجهر والإِسرار لأن الجمع بين الحالتين أقوى في الدعوة وأغلظ من إفراد إحداهما . فقوله : { أعلنت لهم } تأكيد لقوله : { دعوتهم جهاراً } ذكر ليبنى عليه عطف { وأسررت لهم إسراراً } .
والمعنى : أنه توخى ما يظنه أوْغَل إلى قلوبهم من صفات الدعوة ، فجهر حين يكون الجهر أجدى مثلُ مجامع العامة ، وأسَرَّ للذين يظنهم متجنبين لَوْم قومهم عليهم في التصدّي لسماع دعوته وبذلك تكون ضمائر الغيبة في قوله دعوتهم } ، وقوله : { أعلنت لهم وأسررت لهم } موزعة على مختلففِ الناس .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ثُمّ إنّي دَعَوْتُهُمْ" إلى ما أمرتني أن أدعوهم إليه جِهارا ظاهرا في غير خفاء... عن مجاهد، قوله: "ثُمّ إنّي دَعَوْتُهُمْ جِهارا" قال: الجهار: الكلام المعلن به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ثم إني دعوتهم جهارا} {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} ففي هذا إخبار أنه دعاهم إلى عبادته عز وجل في كل وقت، تهيأ له من ليل أو نهار، ولم يقصر فيها، ودعاهم في كل وقت رجاء الإجابة منهم. ويحتمل: {ثم إني دعوتهم جهارا} أي إذا بعدوا مني، وازدحموا، وكثروا، فدعاهم جهارا، ليعلمهم الدعوة.
وقوله تعالى: {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} إذا قربوا منه، وقلوا. فلما أدخلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، أعلن في الدعاء. ثم جائز أن يكون الجهر والإسرار منصرفا إلى الدعوة، ويكون الجهر والإسرار بالحجج وإظهار البينات، وإلى هذا يذهب أبو بكر الأصم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلا ونهاراً، ثم دعاهم جهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن؛ فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف. قلت: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان.
ومعنى {ثُمَّ} الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار؛ والجمع بين الأمرين، أغلظ من إفراد أحدهما.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم كرر عليه السلام صفة دعائه لهم بياناً وتأكيداً.
وجهاراً يريد علانية في المحافل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع الدأب على الدعوة، وتحين كل فرصة، والإصرار على المواجهة.. اتبع نوح -عليه السلام- كل الأساليب فجهر بالدعوة تارة، ثم زاوج بين الإعلان والإسرار تارة: (ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ارتقى في شكواه واعتذاره بأنَّ دعوته كانت مختلفة الحالات في القول من جهر وإسرار، فعَطْف الكلام ب {ثم} التي تفيد في عطفها الجمل أن مضمون الجملة المعطوفة أهم من مضمون المعطوف عليها، لأن اختلاف كيفية الدعوة ألصق بالدعوة من أوقات إلقائها لأن الحالة أشد ملابسة بصاحبها مِن ملابسة زمانه. فذَكَر أنه دعاهم جهاراً، أي علناً.
وجِهار: اسم مصدر جهر، وهو هنا وصف لمصدر {دَعَوْتُهم}، أي دعوةً جهاراً.
وارتقى فذكر أنه جمع بين الجهر والإِسرار لأن الجمع بين الحالتين أقوى في الدعوة وأغلظ من إفراد إحداهما. فقوله: {أعلنت لهم} تأكيد لقوله: {دعوتهم جهاراً} ذكر ليبني عليه عطف {وأسررت لهم إسراراً}.
والمعنى: أنه توخى ما يظنه أوْغَل إلى قلوبهم من صفات الدعوة، فجهر حين يكون الجهر أجدى مثلُ مجامع العامة، وأسَرَّ للذين يظنهم متجنبين لَوْم قومهم عليهم في التصدّي لسماع دعوته وبذلك تكون ضمائر الغيبة في قوله دعوتهم}، وقوله: {أعلنت لهم وأسررت لهم} موزعة على مختلفِ الناس.