{ فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } أى بعد أن وقعت القرعة عليه ، ألقى بنفسه فى البحر ، { فالتقمه الحوت } أى : ابتلعه بسرعة : يقال : لَقِم فلان الطعام - كسمع - والتقمه ، إذا ابتلعه بسرعة ، وتَلَّقمه إذا ابتلعه على مهل .
وجملة { وَهُوَ مُلِيمٌ } حالية فى محل نصب ، أى : فالتقمه الحوت وهو مكتسب من الأفعال ما يلام عليه ، حيث غادر قومه بدون إذن من ربه .
يقال : رجل مليم ، إذا أتى من الأقوال أو الأفعال ما يلام عليه ، وهو اسم فاعل من ألاَم الرجل ، إذا أتى ما يلام عليه .
وأمر الله تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار ، وأن يلتقم ، يونس عليه السلام ، فلا يَهْشِمُ له لحما ، ولا يكسر له عظما{[25109]} . فجاء ذلك الحوت وألقى يونس ، عليه السلام ، نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها . ولما استقر يونس في بطن الحوت ، حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي ، فقام يصلي في بطن الحوت ، وكان من جملة دعائه : " يا رب ، اتخذتُ لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس " واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت ، فقيل : ثلاثة أيام ، قاله قتادة . وقيل جُمْعَة{[25110]} قاله جعفر الصادق . وقيل : أربعين يوما ، قاله أبو مالك .
وقال مُجَالد{[25111]} ، عن الشعبي : التقمه ضحى ، وقذفه{[25112]} عشية .
والله أعلم بمقدار ذلك . وفي شعر أمية بن أبي الصلت :
وَأنْتَ بفَضلٍ منْكَ نَجَّيتَ يُونُسًا *** وَقَدْ بَاتَ فِي أضْعَاف حُوتٍ ليَالِيا{[25113]}
وقوله : فالْتَقَمَهُ الحُوتُ يقول : فابتلعه الحوت وهو افتعل من اللّقْم . وقوله : وَهُوَ مُلِيمُ يقول : وهو مكتسب اللوم ، يقال : قد ألام الرجل ، إذا أتى ما يُلام عليه من الأمر وإن لم يُلَم ، كما يقال : أصبحتَ مُحْمِقا مُعْطِشا : أي عندك الحمق والعطش ومنه قول لبيد :
سَفَها عَذَلْتَ ولُمْتَ غيرَ مُلِيمِ *** وَهَداكَ قَبلَ اليوْمِ غيرُ حَكِيم
فأما الملوم فهو الذي يُلام باللسان ، ويعذل بالقول . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثني أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَهُوَ مُلِيمٌ قال : مذنب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهُوَ مُلِيمٌ : أي في صنعه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَهُوَ مُلِيمٌ قال : وهو مذنب ، قال : والمليم : المذنب .
و «المليم » الذي أتى ما يلام عليه ، ألام الرجل دخل في اللوم ، وبذلك فسر مجاهد وابن زيد ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وكم من مليم لم يصب بملامة . . . ومتبع بالذنب ليس له ذنب
ومنه قول لبيد بن ربيعة : [ الكامل ]
سفهاً عذْلتَ ولمت غير مليم . . . وهداك قبل اليوم غير حكيم{[9890]}
ثم استنقذه الله من بطن الحوت بعد مدة واختلف الناس فيها ، فقالت فرقة بعد ساعة من النهار ، وقالت فرقة بعد سبع ساعات ، وقال مقاتل بن حيان بعد ثلاثة أيام ، وقال عطاء بن أبي رباح بعد سبعة أيام ، وقالت فرقة بعد أربعة عشر يوماً ، وقال أبو مالك والسدي بعد أربعين يوماً ، وهو قول ابن جريج أنه بلغه وجعل تعالى علة استنقاذه مع القدر السابق تسبيحه ، واختلف الناس في ذلك فقال ابن جريج هو قوله في بطن الحوت سبحان الله ، وقالت فرقة بل التسبيح وصلاة التطوع ، واختلفت هذه الفرقة ، فقال قتادة وابن عباس وأبو العالية صلاته في وقت الرخاء نفعته في وقت الشدة ، وقال هذا جماعة من العلماء ، وقال الضحاك بن قيس{[9890]} على منبره اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس كان عبداً لله ذاكراً فلما أصابته الشدة نفعه ذلك .
الالتقام : البلْع . والحوت الذي التقمه : حوتٌ عظيم يبتلع الأشياء ولا يعضّ بأسنانه ويقال : إنه الحوت الذي يسمّى ( بَالَيْن ) بالافرنجية .
والمُليم : اسم فاعل من ألام ، إذا فعل ما يلومه عليه الناس لأنه جعلهم لائمين فهو ألاَمَهم على نفسه .
وكان غرقه في البحر المسمّى بحر الروم وهو الذي نسميه البحر الأبيضَ المتوسط ، ولم يكن بنهرِ دجلة كما غلط فيه بعض المفسرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
استلام إلى ربه، قال الفراء: ألام الرجل إذا استحق اللوم وهو مليم، وقال أيضا: وليم على أمر قد كان منه، فهو ملوم على ذلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فالْتَقَمَهُ الحُوتُ" يقول: فابتلعه الحوت...
وقوله: "وَهُوَ مُلِيمُ "يقول: وهو مكتسب اللوم، يقال: قد ألام الرجل، إذا أتى ما يُلام عليه من الأمر وإن لم يُلَم...
فأما الملوم فهو الذي يُلام باللسان، ويعذل بالقول... عن مجاهد، قوله: "وَهُوَ مُلِيمٌ" قال: مذنب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قال بعضهم: من الملامة، أي كان يلوم نفسه في ما صنع من الخروج من بينهم بلا إذن من الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فالتقمه} ابتلعه كما تبتلع اللقمة.
{الحوت} المعروف من جهة أنه لا حوت أكبر منه، فكأنه لا حوت غيره.
{وهو} والحال أن يونس عليه السلام {مليم} داخل في الملامة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الحوت الذي التقمه: حوتٌ عظيم يبتلع الأشياء ولا يعضّ بأسنانه...
المُليم: اسم فاعل من ألام، إذا فعل ما يلومه عليه الناس لأنه جعلهم لائمين فهو ألاَمَهم على نفسه...
ثم يقول سبحانه {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: ابتلعه الحوت، وقد فعل عليه السلام ما يُلاَم عليه، واللوم نوع من العتاب، وفَرْق بين ما تُلاَم عليه وما تُعَاقب عليه، سيدنا يونس فعل ما يُعاتَبُ عليه من ربه -عز وجل- وكأن الله يقول له: لقد تسرعتَ حين تركتَ قومك وضِقْتَ بهم لأول إيذاء تتعرَّض له، وكان عليك أنْ تصبر، وأنْ تتحمل الأذى في سبيل دعوتك. فاللوم ضَرْب من العتاب، لا يصل إلى درجة العقاب، وغالباً ما ينشأ العتاب بين الأحبة لاستبقاء المودة...
ومعلوم أنك لا تعاتب إلا مَنْ تحرص عليه ليظل في صحبتك.
إذن: يشفع لسيدنا يونس هنا عدة أشياء أولها {إِذْ أَبَقَ} يعني: كان عبداً لله تعالى، ثم {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] أي: لا نُضيِّق عليه، وهذا حُسْن ظن بالله، ثم {وَهُوَ مُلِيمٌ} فالله عاتبه ولامه مجرد لَوْمٍ، على أمر لا يصحُّ من نبي، والعتاب دليل المحبة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(مليم) من مادّة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعندما تأتي بصفة الفعل فإنّها تعطي معنى استحقاق الملامة)... ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب ارتكابه ذنباً كبيراً أو صغيراً وإنّما بسبب تركه العمل بالأولى، واستعجاله في ترك قومه وهجرانهم...