ثم هدد - سبحانه - هؤلاء المستهزئين بما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم تهديدا شديدا ، فقال { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } .
و " كلا " حرف زجر وردع ، والمقصود بها هنا : ردع أولئك المتسائلين عن النبأ العظيم ، ونوعدهم على اختلافهم فى شأنه .
أى : كلا ليس الأمر كما يتوهمه أولئك المتسائلون ، من استهزائهم بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن إنكارهم لكون القرآن الكريم من عند الله ، أو لكون البعث حق . بل الحق كل الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق كل الصدق فيما يبلغه عن ربه ، وأن هؤلاء المتسائلين سيرون عما قريب سوء عاقبة استهزائهم واختلافهم .
والجملة الثانية وهى قوله : { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } جئ بها لزيادة التهديد والوعيد ، ولبيان أن الوعيد الثانى أشد وأبلغ من الوعيد الأول .
وحذف مفعول { سَيَعْلَمُونَ } للتعميم والتهويل ، أى : سيعلمون علم اليقين ما سيحل بهم من عذاب مقيم ، وسيرون ذلك رأى العين عما قريب ، كما قال - تعالى - { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً . وَنَرَاهُ قَرِيباً }
وقوله : كَلاّ يقول تعالى ذكره : ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين ينكرون بعث الله إياهم أحياء بعد مماتهم ، وتوعدهم جلّ ثناؤه على هذا القول منهم ، فقال : سَيَعْلَمُونَ يقول : سيعلم هؤلاء الكفار المُنكرون وعيد الله أعداءه ، ما الله فاعل بهم يوم القيامة ، ثم أكد الوعيد بتكرير آخر ، فقال : ما الأمر كما يزعمون من أن الله غير محييهم بعد مماتهم ، ولا معاقبهم على كفرهم به ، سيعلمون أن القول غير ما قالوا إذا لقُوا الله ، وأفضوا إلى ما قدّموا من سيىء أعمالهم . وذكر عن الضحاك بن مزاحم في ذلك ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك كَلاّ سَيَعْلَمُونَ الكفار ثُمّ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ المؤمنون ، وكذلك كان يقرؤها .
وقرأ السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة والأعمش : «كلا سيعلمون » بالياء في الموضعين على ذكر الغائب ، فظاهر الكلام أنه رد على الكفار في تكذيبهم وعيد لهم في المستقبل وكرر الزجر تأكيداً ، وقال الضحاك المعنى : { كلا سيلعمون } يعني الكفار على جهة الوعيد .
{ ثم كلا سيعلمون } : يعني المؤمنين على جهة الوعد ، وقرأ ابن عامر فيما روى عنه مالك بن دينار والحسن بخلاف : «كلا ستعلمون » بالتاء في الموضعين على مخاطبة الحاضر كأنه تعالى يقول : قل لهم يا محمد وكرر عليهم الزجر والوعيد تأكيداً وكل تأويل في هذه القراءة غير هذا فمتعسف وقرأ . . . «كلا سيعلمون » بالياء على جهة الرد والوعيد للكفار ، «ثم كلا ستعملون » بالتاء من فوق على جهة الرد على الكفار والوعد والمؤمنين . والعلم في هذه الآية بمعنى ستعرفون ، فلذلك لم يتعد .
{ كلا } حرف ردع وإبطال لشيء يسبقه غالباً في الكلام يقتضي ردع المنسوب إليه وإبطال ما نسب إليه ، وهو هنا ردع للذين يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون على ما يحتمله التساؤل من المعاني المتقدمة ، وإبطال لما تضمنته جملة { يتساءلون } [ النبأ : 1 ] من تساؤل معلوم للسامعين .
فموقع الجملة موقع الجواب عن السؤال ولذلك فصلت ولم تعطف لأن ذلك طريقة السؤال والجواب .
والكلام وإن كان إخباراً عنهم فإنهم المقصودون به فالردع موجه إليهم بهذا الاعتبار .
والمعنى : إبطال الاختلاف في ذلك النبأ وإنكار التساؤل عنه ذلِك التساؤُل الذي أرادوا به الاستهزاء وإنكار الوقوع ، وذلك يُثبت وقوع ما جاء به النبأ وأنه حق لأن إبطال إنكار وقوعه يفضي إلى إثبات وقوعه .
والغالب في استعمال { كلاّ } أن تعقّب بكلام يبيِّن ما أجملتْه من الردع والإِبطال فلذلك عقبت هنا بقوله : { سيعلمون } وهو زيادة في إبطال كلامهم بتحقيق أنهم سيوقنون بوقوعه ويعاقَبون على إنكاره ، فهما علمان يحصلان لهم بعد الموت : علم بحق وقوععِ البعث ، وعلمٌ في العقاب عليه .
ولذلك حذف مفعول { سيعلمون } ليعُمّ المعلومَيْن فإنهم عند الموت يرون ما سيصيرون إليه فقد جاء في الحديث الصحيح « إن الكافر يرى مقعده فيقال له هذا مقعدك حتى تبعث » وفي الحديث : « القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حُفر النار » وذلك من مشاهد رُوح المقبور وهي من المكاشفات الروحية وفسر بها قوله تعالى : { لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين } [ التكاثر : 6 ، 7 ] .
فتضمن هذا الإبطال وما بعده إعلاماً بأن يوم البعث واقع ، وتضمن وعيداً وقد وقع تأكيده بحرف الاستقبال الذي شأنه إفادة تقريب المستقبل .
ومن محاسن هذا الأسلوب في الوعيد أن فيه إيهاماً بأنهم سيعلمون جواب سؤالهم الذي أرادوا به الإحالة والتهكم ، وصوروه في صورة طلب الجواب فهذا الجواب من باب قول الناس : الجوابُ ما ترى لا ما تسمع .