ولهذا فصل الله تعالى العاملين ، ووصف أعمالهم ، فقال : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى } [ أي ] ما أمر به من العبادات المالية ، كالزكوات ، والكفارات والنفقات ، والصدقات ، والإنفاق في وجوه الخير ، والعبادات البدنية كالصلاة ، والصوم ونحوهما .
والمركبة منهما ، كالحج والعمرة [ ونحوهما ] { وَاتَّقَى } ما نهي عنه ، من المحرمات والمعاصي ، على اختلاف أجناسها .
ثم فصل - سبحانه - ما أجمله فى قوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } فقال : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى . وَصَدَّقَ بالحسنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى . وَكَذَّبَ بالحسنى . فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى . وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } والحسنى تأنيث الأحسن ، وهى فة لموصوف محذوف .
أى : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } حق الله - تعالى - ، بأن أنفق من ماله فى وجوه الخير : كإعتاق الرقاب ، ومساعدة المحتاجين . . { واتقى } المحارم والمعاصى
هذه حقيقة . ولكن هناك حقيقة أخرى . حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعا . وتضم هذه العوالم المتباينة كلها . تضمها في حزمتين اثنتين . وفي صفين متقابلين . تحت رايتين عامتين : ( من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) . . و ( من بخل واستغنى وكذب بالحسنى ) . .
( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى . . فسنيسره لليسرى ) . .
وقوله : فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى يقول تعالى ذكره : فأما من أعطى واتقى منكم أيها الناس في سبيل الله ، ومن أمَرهُ الله بإعطائه من ماله ، وما وهب له من فضله ، واتقى الله واجتنب محارمه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى قال : أعطى ما عنده واتقى ، قال : اتقى ربه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْديّ ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس فأمّا مَنْ أعْطَى من الفضل واتّقَى : اتقى ربه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فأمّا مَنْ أعْطَى حقّ الله وَاتّقَى محارم الله التي نهى عنها .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فأمّا مَنْ أعْطَى وَاتّقَى يقول : من ذكر الله ، واتقى الله .
ثم قسم تعالى الساعين فذكر أن من أعطى وظاهر ذلك إعطاء المال ، وهي أيضاً تتناول إعطاء الحق في كل شيء ، قول وفعل ، وكذلك البخل المذكور بعد أن يكون بالإيمان وغيره من الأقوال التي حق الشريعة أن لا يبخل بها ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ، وذلك أنه كان يعتق ضعفة العبيد الذين أسلموا وكان ينفق في رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله ، وكان الكفار بضد ذلك{[11857]} ، وهذا قول من قال السورة كلها مكية ، قال عبد الله بن أبي أوفى : نزلت هذه السورة في أبي بكر الصديق وأبي سفيان بن حرب ، وقال مقاتل : مر أبو بكر على أبي سفيان وهو يعذب بلالاً فاشتراه منه ، وقال السدي : نزلت هذه الآية بسبب أبي الدحداح الأنصاري ، وذلك أن نخلة لبعض المنافقين كانت مطلة على دار امرأة من المسلمين لها أيتام فكانت التمر تسقط عليهم فيأكلونه فمنعهم المنافق من ذلك ، واشتد عليهم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بعنيها بنخلة في الجنة » ، فقال : لا أفعل ، فبلغ ذلك أبا الدحداح فذهب إليه واشترى منه النخلة بحائط له ، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : أنا أشتري النخلة في الجنة بهذه ، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على الحائط الذي أعطى أبو الدحداح وقد تعلقت أقناؤه{[11858]} فيقول :
«وكم قنو معلق لأبي الدحداح في الجنة{[11859]} » ، وفي البخاري أن هذا اللفظ كان رسول الله صلى الله عيله وسلم يقوله في الأقناء التي كان أبو الدحداح يعلقها في المسجد صدقة ، وهذا كله قول من يقول بعض السور مدني
{ فأما } تفريع وتفصيل للإِجمال في قوله : { إن سعيكم لشتى } [ الليل : 4 ] فحرف ( أمَّا ) يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى : مَهما يكن من شيء ، والتفصيل : التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرَد بعضها عن بعض بحالة هي التي يُعتنَى بتمييزها . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } في سورة الفجر ( 15 ) .
والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور ، ولكن جعل التفصيلُ ببيان الساعين بقوله : فأما من أعطى } لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويُلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل ، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة :
وقَد خِفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعلٍ في ذي المَطارة عَاقِل
ومنه قوله تعالى : { ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر } إلخ في سورة البقرة ( 177 ) .
وقوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] الآية ، أي كإيمان من آمن بالله .
وانحصر تفصيل « شتى » في فريقين : فريق ميسَّر لليسرى وفريق ميسَّر للعسرى ، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير ، والتحذير من الشر ، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى : { يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } في سورة الزلزلة ( 6 8 ) . ويجوز أن يجعل تفصيل شتى هم من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى ، ومنْ بخل واستغنى وكذب بالحسنى وذلك عدد يصح أن يكون بياناً لشتّى .
ومَن } في قوله : { من أعطى } الخ وقوله : { من بخل } الخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدِّق بالحسنى . وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأعتقه ليُنجيه من تعذيب أمية بن خلف ، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوضَ أمية بن خلف ، وهم وهَم .
وقيل : نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي . وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسببُ النزول لا يخصص العموم .
وحُذف مفعول { أعطى } لأن فعل الإِعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض ، يُنزَّل منزلَة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال ( ولذلك يسمى المالُ الموهوب عَطاءَ ) ، والمقصود إعطاء الزكاة .
وكذلك حُذف مفعول { اتقى } لأنه يعلم أن المقدّر اتّقى الله .
وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان ، فالمعنى : فأما من كان من المؤمنين كما في قوله تعالى : { قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين } [ المدثر : 43 44 ] ، أي لم نك من أهل الإيمان .
وكذلك فعل { بَخل } لم يُذكر متعلقه لأنه أريد به البخل بالمال .
و { استغنى } جُعل مقابلاً ل { اتَّقى } فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمْرِ الله ودعوته لأن المصرَّ على الكفر المعرِضَ عن الدعوة يَعُد نفسه غنياً عن الله مكتفياً بولاية الأصنام وقومِه ، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استحباب بمعنى أجاب .
وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال ، فتكون السين والتاء للطلب ، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين .