50 - 61 } { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }
لما ذكر تعالى نعيمهم ، وتمام سرورهم ، بالمآكل والمشارب ، والأزواج الحسان ، والمجالس الحسنة ، ذكر تذاكرهم فيما بينهم ، ومطارحتهم للأحاديث ، عن الأمور الماضية .
وقوله : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } وحذف المعمول ، والمقام مقام لذة وسرور ، فدل ذلك على أنهم يتساءلون بكل ما يلتذون بالتحدث به ، والمسائل التي وقع فيها النزاع والإشكال .
ومن المعلوم أن لذة أهل العلم بالتساؤل عن العلم ، والبحث عنه ، فوق اللذات الجارية في أحاديث الدنيا ، فلهم من هذا النوع النصيب الوافر ، ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ما لا يمكن التعبير عنه .
ثم حكى - سبحانه - بعض المحاورات التى تدور بين عباده المخلصين ، بعد أن رأوا ما أعده - سبحانه - لهم من نعيم مقيم . . فقال - تعالى - :
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ . . . } .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : علام عطف قوله : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } ؟
قلت ؛ هو معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } والمعنى : يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشاربين .
وما بقيت من اللذات إلا . . . أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض { يَتَسَآءَلُونَ } عما جرى لهم وعليهم فى الدنيا . إلا أن جئ به ماضيا على عادة الله فى أخباره .
أى : أن هؤلاء العباد المخلصين ، بعد أن أعطاهم الله ما أعطاهم من النعم ، أقبل بعضهم على بعض { يَتَسَآءَلُونَ } فيما بينهم عن ذكرياتهم ، وإذا بواحد منهم يقول لإخوانه - من باب التحدث بنعمة الله :
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، أي : عن أحوالهم ، وكيف كانوا في الدنيا ، وماذا كانوا يعانون فيها ؟ وذلك من حديثهم على شرابهم ، {[24972]} واجتماعهم في تنادمهم وعشرتهم في مجالسهم ، وهم جلوس على السرر ، والخدم بين أيديهم ، يسعون ويجيئون بكل خير عظيم ، من مآكل ومشارب وملابس ، وغير ذلك مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وقوله : فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يقول تعالى ذكره : فأقبل بعض أهل الجنة على بعض يتساءلون ، يقول : يسأل بعضهم بعضا . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فأَقْبَلَ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أهل الجنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قال : أهل الجنة .
الفاء للتفريع لأن شأن المتجالسين في مسرّة أن يشرعوا في الحديث فإن في الحديث مع الأصحاب والمنتدمين لذة كما قال محمد بن فياض :
وما بقيتْ من اللذات إلا *** أحاديثُ الكرام على الشراب
فإذا استشعروا أن ما صاروا إليه من النعيم كان جزاء على ما سبق من إيمانهم وإخلاصهم تذكر بعضُهم مَن كان يجادله في ثبوت البعث والجزاء فحمِد الله على أن هدَاه لعدم الإِصغاء إلى ذلك الصّادِّ فحدث بذلك جلساءه وأراهم إياه في النار ، فلذلك حكي إقبال بعضهم على بعض بالمساءلة بفاء التعقيب . وهذا يدلّ على أن الناس في الآخرة تعود إليهم تذكراتهم التي كانت لهم في الدنيا مصفاة من الخواطر السيّئة والأكدار النفسانية مدركة الحقائق على ما هي عليه . وجيء في حكاية هذه الحالة بصيغ الفعل الماضي مع أنها مستقبلة لإِفادة تحقيق وقوع ذلك حتى كأنه قد وقع على نحو قوله تعالى : { أتى أمر اللَّه } [ النحل : 1 ] ، والقرينة هي التفريع على الأخبار المتعلقة بأحوال الآخرة .
والتساؤل : أن يسأل بعضهم بعضاً ، وحُذف المتساءل عنه لدلالة ما بعده عليه ، وقد بَين نحواً منه قولهُ تعالى : { في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر } [ المدثر : 40 - 42 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
أهل الجنة حين يتكلمون، يكلم بعضهم بعضا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ" يقول تعالى ذكره: فأقبل بعض أهل الجنة على بعض "يتساءلون"، يقول: يسأل بعضهم بعضا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يتذاكرون فيما بينهم، ويذكرون مِنْ معارفهم مَنْ لا يُؤْمن باللهِ، وما آمن به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
التعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه، فإنه ألذ تلك اللذات إلى العقل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك الاجتماع إنما هو للسرور، وكان السرور لا يتم إلا بالمنادمة، وكان أحلى المنادمة ما يذكر بحلول نعمة أو انحلال نقمة، تسبب عن ذلك ولا بد قوله إشارة إلى فراغ البال وصحة العقل بالإصابة في المقال: {فأقبل بعضهم} أي أهل الجنة بالكلام، وأشار إلى أن مجرد الإقبال بالقصد يلفت القلوب إلى سماعه بأداة الاستعلاء فقال: {على بعض} أي لأجل الكلام الذي هو روح ذلك المقام، وأما المواجهة فقد تقدم أنها دائمة، وبين حال هذا الإقبال فقال: {يتساءلون} أي يتحدثون حديثاً بيناً لا خفاء بشيء منه بما أشار إليه الإظهار بما حقه أن يهتم به ويسأل عنه من أحوالهم التي خلصوا منها بعد أن كادت ترديهم، وسماه سؤالاً لأنه مع كونه أهلاً لأن يسأل عنه -لا يخلو عن سؤال أدناه سؤال المحادث أن يصغي إلى الحديث، وعبر عنه بالماضي إعلاماً بتحققه تحقق ما وقع.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
بعد أن ذكر حال أهل الجنة وما يتمتعون به من النعيم المقيم، ثم ذكر سرورهم وحبورهم في المآكل والمشارب وجميل المساكن والأزواج الحسان- بين هنا أنهم لخلو بالهم من المشاغل، وطيب نفوسهم يسمر بعضهم مع بعض ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم من شتى الشؤون، مع اختلاف الأهواء.
والحديث ذو شجون، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شؤون الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال: وفراغ البال، واطمئنان النفس، وخلوها من المخاوف العاجلة والآجلة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وحذف المعمول، والمقام مقام لذة وسرور، فدل ذلك على أنهم يتساءلون بكل ما يلتذون بالتحدث به، والمسائل التي وقع فيها النزاع والإشكال، ومن المعلوم أن لذة أهل العلم بالتساؤل عن العلم، والبحث عنه فوق اللذات الجارية في أحاديث الدنيا، فلهم من هذا النوع النصيب الوافر، ويحصل لهم من انكشاف الحقائق العلمية في الجنة ما لا يمكن التعبير عنه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يمضي في الحكاية المصورة؛ فإذا عباد الله المخلصون هؤلاء -بعد ما يسرت لهم كل ألوان المتاع- ينعمون بسمر هادئ، يتذاكرون فيه الماضي والحاضر -وذلك في مقابل التخاصم والتلاحي الذي يقع بين المجرمين وإذا أحدهم يستعيد ماضيه، ويقص على إخوانه طرفاً مما وقع له.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا يدلّ على أن الناس في الآخرة تعود إليهم تذكراتهم التي كانت لهم في الدنيا مصفاة من الخواطر السيّئة والأكدار النفسانية مدركة الحقائق على ما هي عليه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَتَسَآءلُونَ} في كلماتٍ لا تستهدف قضاء وقت الفراغ ليمتلىء بشيءٍ، أيّ شيءٍ، كما يفعل البعض عندما يشعرون بالملل والسأم، بل تستهدف التعبير عن حقيقة تتصل بالمضمون الإيماني الذي يواجه المضمون الكافر في الأجواء التي تزدحم بساحات الصراع، في ما ينتهي إليه أمر المؤمن في الجنة، وفي ما ينتهي إليه أمر الكافر في النار.