قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض } ، الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، و المراد به الجميع ، وقيل معناه : ألم تعلم أيها الإنسان ، فيكون خطاباً لكل أحد من الناس .
قوله تعالى : { يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } ، قال السدي والكلبي : يعذب من يشاء من مات على كفره ، ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعذب من يشاء على الصغيرة ، ويغفر لمن يشاء على الكبيرة .
وذلك أن لله{[263]} ملك السماوات والأرض ، يتصرف فيهما بما شاء من التصاريف القدرية والشرعية ، والمغفرة والعقوبة ، بحسب ما اقتضته حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته .
ثم ساق - سبحانه - ما يدل على شمول قدرته ، ونفاذ إرادته بصيغة الاستفهام التقريري فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } بحيث يتصرف فيهما وفي غيرهما من خلقه تصرف المالك في ملكه بدون مدافع أو منازع .
فالاستفهام هنا لتقرير العلم وتأكيده . أي إنك تعلم أيها العاقل ذلك علما . متيقتا ، فاعمل بمقتضى هذا العلم ، بأن تكون مطيعا لخالقك في كل ما أمر ونهى وبأن تدعو غيرك إلى هذه الطاعة .
وقوله : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } تأكيد لشمول قدرته ونفاذ إرادته ، أي : هو - سبحانه - المالك لكل شيء ، والخالق لكل شيء وهو صاحب السلطان المطلق في خلقه ، فله - سبحانه - أن يعذب من يشاء تعذيبه وله أن يرحم من يشاء رحمته .
قال الآلوسي : وكان الظاهر لحديث : " سبقت رحمتي غضبي " تقديم المغفرة على التعذيب ، وإنما عكس هنا ، لأن التعذيب للمصر على السرقة ، والمغفرة للتائب منها . وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق .
أو لأن المراد بالتعذيب القطع ، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله - تعالى - والأول في الدنيا والثاني في الآخرة ، فجيء به على ترتيب الوجود . ولأن المقام مقام الوعيد .
وقوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مؤكد لما قبله ، ومقرر لشمول قدرته - سبحانه - على كل شيء .
هذا وقد تكلم العلماء عن معنى السرقة ، وعن شروط إقامة حدها ، وعن طريقة إثباتها .
وعن غير ذلك من المسائل المتعلقة بها ، تكلموا عن كل ذلك باستفاضة في كتب الفقه وفي بعض كتب التفسير .
ونرى أنه لا بأس من ذكر خلاصة لبعض المسائل التي تحدثوا عنها فنقول :
1 - عرف الفقهاء السرقة شرعا بأنها أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصاً من المال على طريق الاستخفاء من حرز بمكان أو حافظ وبدون شبهة .
2 - وقد ذهب بع الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به ، سواء أكان قليلا أم كثيراً ، لعموم هذه الآية .
ولكن جمهور الفقهاء يرون أنه لا تقطع يد السارق إلا إذا بلغ المسروق قدراً معيناً من المال ، وقد تفاوت أنظارهم في هذا القدر .
فالأحناف يرون أنه لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعداً ، أو فيما قيمته عشرة دراهم . ومن حججهم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا قطع فيما دون عشرة دراهم " .
والمالكية والشافعية يرون أنه لا قطع إلا في ربع دينار أو فيما قيمته ذلك .
ومن حججهم ما روى عن عائشة أنها قالت : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً " .
قال القرطبي : وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً " فبين أنه إنما أراد بقوله { والسارق والسارقة } بعض السراق دون بعض ، فلا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار ، ويقطع في ربع دينار أو فيما قيمته ربع دينار أو في ثلاثة دراهم . . وقال أحمد : إن سرق ذهبا فربع دينار . وإن سرق غير الذهب والفضة فالقيمة ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق .
وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري : لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا ، أو في دينار ذهباً عيناً أو وزناً . ولا يطقع حتى يخرج بالمتاع من ملك صاحبه . . ثم قال : وتقطع اليد من الرسغ . ولا خلاف في أن اليمنى هي التي تقطع أولا .
3 - وقد اشترط الفقهاء في المال المسروق الذي تقطع فيه يد السارق أن يكون مالا محرزاً ، أي مصوناً محفوظاً معنيا بحفظه العناية اللائقة بمثله .
قال القرطبي : الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس ، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله . قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم . وإنما ذلك كالإِجماع من أهل العلم . وحكى عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز . وفي الموطأ لمالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا قطع في ثمر معلق - أي في ثمر على الأشجار - ولا حريسة جبل - أي ما يحرس بالجبل - فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن " .
كذلك اشترطوا عدم الشبهة في المال المسروق لقوله صلى الله عليه وسلم : " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " .
فلا يقطع من سرق مالا له فيه شركة ، أو سرق من مدينة مثل دينه ، ولا يقطع البعد إذا سرق من مال سيده . ولا الأب إذا سرق من مال ابنه وما أشبه ذلك لوجود الشبهة .
كذلك اشترطوا في المسروق الذي يجب فيه الحد أن يكون مالا متقوما . أي : مما يتموَّ له الناس ، ويعدونه لمقاصدهم المختلفة فلا تقطع يد السارق إذا سرق شيئاً تافها ، أو سرق شيئاً مما لا يتمول كالتراب والطين والماء وما يشبه ذلك .
كذلك اشترطوا فيه ألا يكون مما يحرم تناوله أو إستعماله . فإا كان مما يحرم تناوله أو استعماله كالخمر أو الخنزير أو أدوات اللهو والمجون فإنه في تلك الأحوال لا تقطع يد السارق .
وهكذا نرى أن الشريعة الإِسلامية وإن كانت قد شرعت العقوبات الشديدة لزجر العصاة والمفسدين والخائنين . . إلا أنها لا تطبق هذه العقوبات إلا على الذين يستحقونها ، وفي أضيق الحدود ، وبأدق الشروط ، عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم " .
ولو أن المسلمين ساروا على هدى شريعة الله لنالوا الأمان والاطمئنان في دنياهم ، والفوز والرضا من الله - تعالى - في أخراهم .
4 - كذلك أخذ أكثر الشافعية والحنابلة من قوله - تعالى - { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } أن التوبة تمنع إقامة الحد .
قالوا : لأن هذه الآية قد اقترنت بقوله - تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } فكانت مخصصة للعموم في الأمر بالقطع ، وإلا ما اقترنت به ولأنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن التوبة تجب ما قبلها ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " .
ويرى الأحناف والمالكية أن التوبة لا تسقط الحد ، لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب ، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد كما جاءت بذلك الأحاديث النبوية .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } إلخ . أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله إن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه . فأما أموال الناس فلابد من ردها إليهم أو رد بدلها . وهذا عند الجمهور .
وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها .
وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق قد سرق شملة فقال " " ما إخاله قد سرق " فقال السارق : بلى يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " اذهبوا به فاقطعوا ثم احسموه ثم ائتوني به " فقطع فأتى به فقال : تب إلى الله ، فقال : تبت إلى الله . فقال : " تاب الله عليك "
وروى ابن ماجه عن ثعلبة الأنصاري : أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله ، إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني . فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا . فأمر به فقطعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك . أردت أن تدخلي جسدي النار " .
روى الإِمام أحمد عن عبد الله بن عمرو " أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله : إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " اقطعوا يدها . فقطعت يدها اليمنى . فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال : نعم . أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ، فأنزل الله - تعالى - : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } " الآية .
هذه خلاصة لبعض المسائل والأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة ، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى ما كتبه الفقهاء في كتبهم ، وإلى ما كتبه بعض المفسرين في تفاسيرهم .
وعلى ذكر الجريمة والعقوبة ، وذكر التوبة والمغفرة ، يعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة . فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه ، وصاحب السلطان الكلي في مصائره . هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه ، كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم ، ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم .
( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ) .
فهي سلطة واحدة . . سلطة الملك . . يصدر عنها التشريع في الدنيا ويصدر عنها الجزاء في الآخرة ، ولا تعدد ولا انقسام ولا انفصام . . ولا يصلح أمر الناس إلا حين تتوحد سلطة التشريع وسلطة الجزاء ، في الدنيا والآخرة سواء . . و ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . . ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . .
ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هو المالك لجميع ذلك ، الحاكم فيه ، الذي لا مُعَقِّبَ لحكمه ، وهو الفعال لما يريد { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }{[9832]}
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . .
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم يعلم هؤلاء القائلون : لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً الزّاعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه ، أن الله مدبر ما في السموات وما في الأرض ، ومصرّفه وخالقه ، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أراده لأن كلّ ذلك ملكه وإليه أمره ، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيها ولا مما في واحدة منهما فيحابيه بسبب قرابته منه فينجيه من عذابه وهو به كافر ولأمره ونهيه مخالف ، أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه ، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته ، فينقذه من الهَلَكة وينجيه من العقوبة . وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : والله على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه على معصيته وغفران ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الأمور كلها قادر ، لأن الخلق خلقه والملك ملكه والعباد عباده . وخرج قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ خطابا له صلى الله عليه وسلم ، والمعنيّ به من ذكرت من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حواليها . وقد بينا استعمال العرب نظير ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : { ألم تعلم } الآية توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في المحاربين والسرقة ، والإخبار بهذا التعذيب لقوم ، والتوبة على آخرين وهي{[4537]} ملكه تعالى لجميع الأشياء ، فهو بحق الملك لا معقب لحكمه ولا معترض عليه .
وقوله تعالى : { يا أيها الرسول } الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل ، والمعنى قد وعدناك النصر والظهور عليهم ف { لا يحزنك } ما يقع منهم خلال بقائهم ، وقرأ بعض القراء «يَحزُنك » بفتح الياء وضم الزاي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي وحزنته بفتحها وقرأ بعض القراء «يُحزِنك » بضم الياء وكسر الزاي لأن من العرب من يقول أحزنت الرجل بمعنى حزنته وجعلته ذا حزن ، وقرأ الناس يسارعون . وقرأ الحر النحوي «يسرعون » دون ألف ومعنى المسارعة في الكفر البدار إلى نصره وإقامة حججه والسعي في إطفاء الإسلام به ، واختلف المفسرون في ترتيب معنى الآية وفيمن المراد بقوله { بأفواههم } وفي سبب نزول الآية فأما سببها : فروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عباس وجماعة أنهم قالوا : نزلت هذه الآية بسبب الرجم .
قال القاضي أبو محمد : وذلك أن يهودياً زنى بيهودية وكان في التوراة رجم الزناة ، وكان بنو إسرائيل قد غيروا ذلك وردوه جلداً وتحميم{[4538]} وجوه ، لأنهم لم يقيموا الرجم على أشرافهم وأقاموه على صغارهم في القدر فاستقبحوا ذلك وأحدثوا حكماً سووا فيه بين الشريف والمشروف ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زنى رجل من اليهود بامرأة فروي أن ذلك كان بالمدينة . وروي أنه كان في غير المدينة في يهود الحجاز ، وبعثوا إلى يهود المدينة وإلى حلفائهم من المنافقين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النازلة وطمعوا بذلك أن يوافقهم على الجلد والتحميم فيشتد أمرهم بذلك .
«فلما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدراس{[4539]} فجمع الأحبار هنالك وسألهم عما في التوراة فقالوا إنا لا نجد فيها الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فيها الرجم فانشروها » فنشرت ووضع أحدهم يده على آية الرجم . فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بالرجم وأنفذه .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وفي هذا الحديث اختلاف ألفاظ وروايات كثيرة{[4540]} ، منها أنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مر عليه يهودي ويهودية زنيا وقد جلدوا وحمما . فقال هكذا شرعكم يا معشر يهود ؟ فقالوا نعم ، فقال لا ، ثم مشى إلى بيت المدراس وفضحهم وحكم في ذينك بالرجم ، وقال : لأكونن أول من أحيا حكم التوراة حين أماتوه » وروي أن الزانيين لم يكونا بالمدينة ، وأن يهود فدك هم الذين قالوا ليهود المدينة استفتوا محمداً فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية{[4541]} فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا الرجم{[4542]} ، قاله الشعبي وغيره ، وقال قتادة بن دعامة وغيره سبب الآية وذكر اليهود أن بني النضير كانوا غزوا بني قريظة فكان النضري إذا قتله قرظي قتل به وإذا قتل نضري قرظياً أعطي الدية ، وقيل كانت دية القرظي على نصف دية النضري ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة طلبت قريظة الاستواء إذ هم أبناء عم يرجعان إلى جد ، وطلبت الحكومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت النضير بعضها لبعضٍ إن حكم بما كنا عليه فخذوه وإلا فاحذروا{[4543]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها ، ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتحرشهم بالدين ، والروايات في هذا كثيرة ومختلفة ، وقد وقع في بعض الطرق في حديث أبي هريرة أنه قال في قصة الرجم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت مدراسهم وقمنا معه ، وهذا يقتضي أن الأمر كان في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبا هريرة أسلم عام خيبر في آخر سنة ست من الهجرة ، وقد كانت النضير أجليت وقريظة وقريش قتلت ، واليهود بالمدينة لا شيء ، فكيف كان لهم بيت مدراس في ذلك الوقت أو إن كان لهم بيت على حال ذلة فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج مع ظهور دينه إلى محاجتهم تلك المحاجة ؟ وظاهر حديث بيت المدراس أنه كان في حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم مع قدرته عليهم ، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم .
وأما اختلاف الناس فيمن المراد بقوله : { الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } فقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة بن عبد المنذر أشارت إليه قريظة يوم حصرهم : ما الأمر ؟ وعلى ما نزل من الحكم ؟ فأشار إلى حلقه أنه بمعنى الذبح{[4544]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وأبو لبابة من فضلاء الصحابة وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال فوالله مازالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ثم جاء إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فربط نفسه بسارية من سواري المسجد ، وأقسم أن لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه ويرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة حمله عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة ، وقال الشعبي وغيره : نزلت الآية في قوم من اليهود أرادوا سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر رجل منهم قتل آخر فكلفوا السؤال رجلاً من المسلمين وقالوا : إن أفتى بالدية قبلنا قوله وإن أفتى بالقتل لم نقبل{[4545]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نحو ما تقدم عن قتادة في أمر قتل النضير وقريظة .
وقال عبد الله بن كثير ومجاهد وغيرهما قوله تعالى : { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } يراد به المنافقون . وقوله بعد ذلك { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين } يراد به اليهود ، وأما ترتيب معنى الآية بحسب هذه الأقوال : فيحتمل أن يكون المعنى يا أيها الرسول لا يحزنك المسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ، ويكون قوله : { سماعون } خبر ابتداء مضمر ، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود ووصفهم بأنهم { قالو آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } إلزاماً منه ذلك لهم من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها ، فهم يقولون بأفواههم نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى ، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوها وجحدوا ما فيها من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما كفر بهم ، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد هذا ، { وما أولئك بالمؤمنين } [ المائدة : 42 ] ، ويجيء على هذا التأويل قوله : { ومن الذين هادوا } كأنه قال ومنهم لكن صرح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدل التوراة على علم منها . وقرأ جمهور الناس «سماعون » ، وقرأ الضحاك «سماعين » ، ووجهها عندي نصب على الذم على ترتيب من يقول لا يحزنك المسارعون من هؤلاء «سماعين » ، وأما المعنى في قوله : { سماعون للكذب } فيحتمل أن يكون صفة للمنافقين ولبني إسرائيل لأن جميعهم يسمع الكذب بعضهم من بعض ويقبلونه ، ولذلك جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة ، إذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك المسموع ، وقوله تعالى : { للكذب } يحتمل أن يريد { سماعون للكذب } ويحتمل أن يريد «سماعون منك أقوالك » من أجل أن يكونوا عليك وينقلوا حديثك ويزيدوا مع الكلمة أضعافها كذباً ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر «للكِذْب » بكسر الكاف وسكون الذال ، وقوله تعالى : { سماعون لقوم آخرين } يحتمل أن يريد يسمعون منهم ، وذكر الطبري عن جابر أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك ، وقيل يهود خيبر ، وقيل أهل الزانيين ، وقيل أهل الخصام في القتل والدية ، وهؤلاء القوم الآخرون هم الموصوفون بانهم لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون معنى { سماعون لقوم } بمعنى جواسيس مسترقين للكلام لينقلوه لقوم آخرين ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة ، وقيل لسفيان بن عيينة هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله عز وجل ، فقال : نعم ، وتلا هذه الآية : { سماعون لقوم آخرين } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تعلم} يا محمد {أن الله له ملك السماوات والأرض} يحكم فيهما بما يشاء، {يعذب من يشاء} من أهل معصيته، {ويغفر لمن يشاء}، يعني به المؤمنين، {والله على كل شيء} من العذاب والمغفرة {قدير}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم يعلم هؤلاء القائلون:"لَنْ تَمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً" الزّاعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، أن الله مدبر ما في السموات وما في الأرض، ومصرّفه وخالقه، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أراده لأن كلّ ذلك ملكه وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيها ولا مما في واحدة منهما فيحابيه بسبب قرابته منه فينجيه من عذابه وهو به كافر ولأمره ونهيه مخالف، أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهَلَكة وينجيه من العقوبة.
"وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ": والله على تعذيب من أراد تعذيبه من خلقه على معصيته وغفران ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الأمور كلها قادر، لأن الخلق خلقه والملك ملكه والعباد عباده. وخرج قوله: "ألَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ "خطابا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيّ به من ذكرت من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حواليها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الآية توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في المحاربين والسرقة، والإخبار بهذا التعذيب لقوم، والتوبة على آخرين وهي ملكه تعالى لجميع الأشياء، فهو بحق الملك لا معقب لحكمه ولا معترض عليه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، أي لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول القائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد. وقيل: أي له أن يحكم بما يريد؛ فلهذا فرق بين المحارب وبين السارق غير المحارب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان معنى ذلك أنه لا اعتراض عليه سبحانه في شيء من ذلك ولا مانع، لأن قدرته تامة، ليس هو كمن يشاهد من الملوك الذين ربما يعجزون من اعتراض أتباعهم ورعاياهم عن تقريب بعض ما لم يباشر إساءة، وإبعاد بعض من لم يباشر إحساناً، فكيف بغير ذلك! قال تعالى مقرراً لذلك بتفرده في الملك: {ألم تعلم أن الله} أي الذي له جميع العز {له ملك السماوات} أي على علوها وارتفاع سمكها وانقطاع أسباب ما دونها منها {والأرض} أي أن الملك خالص له عن جميع الشوائب.
ولما كان إيقاع النقمة أدل على القدرة، وكان السياق لها لما تقدم من خيانة أهل الكتاب وكفرهم وقصة ابنيّ آدم والسرقة والمحاربة وغير ذلك، قدم قوله معللاً لفعل ما يشاء بتمام الملك لا بغيره من رعاية لمصالح أو غيرها: {يعذب من يشاء} أي من بني إسرائيل الذين ادعوا النبوة والمحبة وغيرهم وإن كان مطيعاً، أي له فعل ذلك، لأنه لا يقبح منه شيء {ويغفر لمن يشاء} أي وإن كان عمله موبقاً، لأنه لا يتصور منه ظلم ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: لأنه قادر على ذلك، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل كمال {على كل شيء} أي شيء {قدير} أي ليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوه، وهذه القضية الضرورية ختم بها ما دعت المناسبة إلى ذكره من الأحكام، وكرَّ بها على أتم انتظام إلى أوائل نقوض دعواهم في قوله {بل أنتم بشر ممن خلق} [المائدة: 18] -.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جعل الله تعالى هذه الآية ذيلا لهذه السياق، بين فيه ما ينبغي أن يحضر القلوب بعض تلك العبر والأحكام، فقال ما حاصل المراد منه: ألم تعلم أيها السامع لهذه الخطاب أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض، يدبر الأمر فيهما بالحكمة والعدل، والرحمة والفضل، فكان من متعلقات اسمه العزيز الحكيم أن وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا من ذكر أو أنثى، كما وضع ذلك العقاب للمحاربين المفسدين، ومن مقتضى اسمه الغفور الرحيم أن يغفر لمن تاب من هؤلاء وهؤلاء ويرحمه، إذا صدق في توبته وأصلح عمله، فهو بمقتضى أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، يعذب من يشاء تعذيبه من الجناة تربية له، وتأمينا لعباده من شره، ويرحم من يشاء من التائبين والمصلحين برحمته وفضله، ترغيبا لعبادة في تزكية أنفسهم، وإصلاح ذات بينهم، وهو على كل شيء من التعذيب والرحمة قدير، لا يعجزه شيء في تدبير ملكه.
يجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن أو يقرأه. ويجوز أن يكون موجها إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستفهام فيه للتقدير، إي أنك تعلم هذا فتذكره وذكر به. وجعله ابن جرير لأهل الكتاب الذين كانوا في المدينة وجوارها ومن على شاكلتهم، الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، لأن السياق الذي انتهى ببيان حد السرقة كان محاجتهم، ومنها إبطال دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه بأنهم بشر من جملة خلقه، وأنه هو رب العباد ومالكهم المتصرف بأمرهم بالعدل والحكمة، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء كما تقدم، فكأن ابن جرير يرى أن ما ذكر من وضع الله الحدود والعقوبات في الدنيا، وبيان ما أعده من الخزي والعذاب للعصاة في الآخرة، ينتظم في سلك الدلائل على إبطال دعوى قولهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وإثبات أنهم بشر من جملة خلقه يعذب من يشاء منهم بالشرع والفعل كما يعذب غيرهم، كما يرحم من يشاء. وتشهد بذلك شريعتهم ذات العقوبات القاسية، وما وقع عليهم أفرادا وجميعا من عذاب الدنيا بالحرب والسبي والأمراض.
وقد تقدم هنا ذكر العذاب على ذكر الرحمة خلافا لما تكرر في القرآن حتى في مثل هذا التركيب من تقديم الرحمة أو المغفرة على العذاب، ومنه الآية التي رد الله فيها على أهل الكتاب زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، إذ قال {بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} [المائدة: 18]. وحكمة هذا التقديم ترتيب الآية على ما قبلها من بيان عقاب السارق أولا وذكر توبته ثانيا، فهي لا تنفي كون الرحمة المطلقة سابقة ومقدمة على العذاب المطلق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جواب لمن يسأل عن انقلاب حال السارق من العقاب إلى المغفرة بعد التّوبة مع عظم جرمه بأنّ الله هو المتصرّف في السماوات والأرض وما فيهما، فهو العليم بمواضع العقاب ومواضع العفو.