ثم بين - سبحانه - سوء مصير هؤلاء الكافرين فقال : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا } أى : لهم عذاب شديد في الحياة الدنيا ، ينزله الله - تعالى - بهم تارة عن طريق القوارع والمصائب التي يرسلها عليهم ، وتارة عن طريق الهزائم التي يوقعها بهم المؤمنون ، هذا في الدنيا { وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ } من عذاب الدنيا لشدته ودوامه { وَمَا لَهُم مِّنَ الله } - تعالى - ومن عذاب الآخرة { مِن وَاقٍ } أى : من حائل يحول بينهم وبين عذابه - سبحانه - .
والنهاية الطبيعية لهذه القلوب المنتكسة هي العذاب :
( لهم عذاب في الحياة الدنيا ) .
إن أصابتهم قارعة فيها ، وإن حلت قريبا من دارهم فهو الرعب والقلق والتوقع . وإلا فجفاف القلب من بشاشة الإيمان عذاب ، وحيرة القلب بلا طمأنينة الإيمان عذاب . ومواجهة كل حادث بلا إدراك للحكمة الكبرى وراء الأحداث عذاب . . .
ويتركه هنا بلا تحديد للتصور والتخيل بلا حدود .
يحميهم من أخذه ، ومن نكاله . فهم معرضون بلا وقاية لما ينزله بهم من عذاب . .
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار : فقال بعد ، إخباره عن حال{[15664]} المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك : { لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا ، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ } أي : المدّخَر [ لهم ]{[15665]} مع هذا الخزي في الدنيا ، " أشق " أي : من هذا بكثير ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين : " إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة " {[15666]} وهو كما قال ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإن عذاب الدنيا له انقضاء ، وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا ، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته ، كما قال تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 25 ، 26 ] وقال تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا } [ الفرقان : 11 - 15 ] . ولهذا قرن هذا بهذا ؛ فقال : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { لّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَُخِرَةِ أَشَقّ وَمَا لَهُم مّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ } .
يقول تعالى ذكره : لهؤلاء الكفّار الذي وصف صفتهم في هذه السورة عذاب في الحياة الدنيا بالقتل والإسار والاَفات التي يصيبهم الله بها . وَلَعَذابُ الاَخِرَةِ أشَقّ يقول : ولَتعذيب الله إياهم في الدار الاَخرة أشدّ من تعذيبه إياهم في الدنيا وأشقّ ، إنما هو «أفعل » من المشقة . وقوله : وَما لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ وَاقٍ يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء الكفّار من أحد يقيهم من عذاب الله إذا عذّبهم ، لا حميم ولا وليّ ولا نصير ، لأنه جلّ جلاله لا يعادّه أحد فيقهره فيخلصه من عذابه بالقهر ، ولا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه وليس يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به فمات على كفره قبل التوبة منه .