وقوله عز وجل - : { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } بيان لمظهر من مظاهر قدرة الله - تعالى - وإحكامه لشئون خلقه . . .
أى : ما تسبق أمة من الأمم أجلها الذى قدرناه لها ساعة من الزمان ، ولا تستأخر عنه ساعة ، بل الكل نهلكه ونميته فى الوقت الذى حددناه بقدرتنا وحكمتنا .
و " من " فى قوله { مِنْ أُمَّةٍ } مزيدة للتأكيد : وفى هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }
ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون :
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين . ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . ثم أرسلنا رسلنا تترى . كلما جاء أمة رسولها كذبوه . فاتبعنا بعضهم بعضا ، وجعلناهم أحاديث . فبعدا لقوم لا يؤمنون . .
هكذا في إجمال ، يلخص تاريخ الدعوة ، ويقرر سنة الله الجارية ، في الأمد الطويل بين نوح وهود في أول السلسلة ، وموسى وعيسى في أواخرها . . كل قرن يستوفي أجله ويمضي : ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) . وكلهم يكذبون : ( كلما جاء أمة رسولها كذبوه ) . وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة الله : ( فأتبعنا بعضهم بعضا ) . وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون : ( وجعلناهم أحاديث )تتناقلها القرون .
ويختم هذا الاستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والاستبعاد من العيون والقلوب : ( فبعدا لقوم لا يؤمنون ) .
وقوله : ما تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أجَلَها يقول : ما يتقدم هلاك أمة من تلك الأمم التي أنشأناها بعد ثمود قبل الأجل الذي أجلنا لهلاكها ، ولا يستأخِر هلاكها عن الأجل الذي أجلنا لهلاكها والوقت الذي وقتنا لفنائها ولكنها تهلك لمجيئه . وهذا وعيد من الله لمشركي قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإعلام منه لهم أن تأخيره في آجالهم مع كفرهم به وتكذيبهم رسوله ، ليبلغوا الأجل الذي أجّل لهم فيحلّ بهم نقمته ، كسنته فيمن قبلهم من الأمم السالفة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ما تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أجَلَها" يقول: ما يتقدم هلاك أمة من تلك الأمم التي أنشأناها بعد ثمود قبل الأجل الذي أجلنا لهلاكها، ولا يستأخِر هلاكها عن الأجل الذي أجلنا لهلاكها والوقت الذي وقتنا لفنائها ولكنها تهلك لمجيئه. وهذا وعيد من الله لمشركي قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإعلام منه لهم أن تأخيره في آجالهم مع كفرهم به وتكذيبهم رسوله، ليبلغوا الأجل الذي أجّل لهم فيحلّ بهم نقمته، كسنته فيمن قبلهم من الأمم السالفة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأنه ذكر هذا لما كانوا يستعجلون العذاب الموعود والهلاك الذي أوعدوا. فأخبر أن لكل أمة أجلا، لا تسبق أجلها باستعجال من يستعجل {وما يستأخرون} أجلهم الذي جعل لهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وهذا وعيد لهؤلاء المشركين، ومعناه: إن كل أمة لها أجل ووقت مقدر قدره الله لها إذا بلغته لا تؤخر عنه ولا تقدم عليه، بل تهلك عنده.
أما قوله: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} فيحتمل في هذا الأجل أن يكون المراد آجال حياتها وتكليفها، ويحتمل آجال موتها وهلاكها، وإن كان الأظهر في الأجل إذا أطلق أن يراد به وقت الموت، فبين أن كل أمة لها آجال مكتوبة في الحياة والموت، لا يتقدم ولا يتأخر، منبها بذلك على أنه عالم بالأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم، ونظيره قوله تعالى: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون}.
قال الكعبي: المراد من قوله: {ما تسبق من أمة} أي: لا يتقدمون الوقت المؤقت لعذابهم إن لم يؤمنوا ولا يتأخرون عنه، ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادا وأنهم لا يلدون مؤمنا، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم، ولا ضرر على أحد في هلاكهم، وهو كقول نوح عليه السلام: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يعني: بل يُؤْخَذون حَسَب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم، أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، وخَلفًا بعد سلف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي حده له بقوله: {ما تسبق} ولعله عبر بالمضارع إشارة إلى أنه ما كان شيء من ذلك ولا يكون، وأشار إلى الاستغراق بقوله: {من أمة أجلها} أي الذي قدرناه لهلاكها {وما يستأخرون} عنه، وكلهم أسفرت عاقبته عن خيبة المكذبين وإفلاح المصدقين، وجعلهم بعدهم الوارثين، وعكس هذا الترتيب في غيرها من الآيات فقدم الاستئخار لأنه فرض هناك مجيء الأجل فلا يكون حينئذ نظر إلا إلى التأخير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 42]
هكذا في إجمال، يلخص تاريخ الدعوة، ويقرر سنة الله الجارية، في الأمد الطويل بين نوح وهود في أول السلسلة، وموسى وعيسى في أواخرها. كل قرن يستوفي أجله ويمضي: (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون)
تأملوا هذه الآية جيدا وارعوها انتباهكم، فلكل أمة أجل تنتهي عنده تماما، مثل أجل الأفراد الذي لا يتقدم ولا يتأخر، فقرن بعد قرن، وأمة بعد أمة، تمر بأطوار شتى كأطوار حياة الإنسان، ثم تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها. فلكل أمة رسول يحمل دعوة الله ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أن ينصره الله وتنتشر دعوته ويتمسك الناس بها، ثم تصيبهم غفلة وفتور عن منهج الله، فينصرفون عنه ويختلفون ويتفرقون، فيكون ذلك إيذانا بزوالها ثم يخلفها غيرها؟. كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحل محلها حضارات أخرى أقوى، نسمع عن حضارة قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن، نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية.. الخ حضارات تتوالى وتأخذ حظها من الرقي والرفاهية، وتورث أصحابها رخاوة وطراوة، وتبدلهم بالجلد والقوة لينا وضعفا، فيغفلوا عن أسباب رقيهم وتقدمهم، فتنهدم حضارتهم ويحل محلها أقوى منها وأصلب. وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلاد (8) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذي الأوتاد (10)} [الفجر]. وإلى الآن، ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية، وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات الحديثة وتنال إعجابهم، فيأتون إليها من كل أنحاء العالم، مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها، لأن الله تعالى قال في حقها: {التي لم يخلق مثلها في البلاد (8)} [الفجر]. ومع ذلك لا نرى لهم أثرا يدل على عظم حضارتهم، ولم يكن لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها، أو تحتفظ لها بشيء، فانهارت وبادت ولم يبق منها حتى أثر. كذلك أتباع الرسل يمرون بمثل هذه الدورة، فبعد قوة الإيمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم الضعف وسوء الحال، إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولا جديدا. {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}، المعنى في الجملة الأولى واضح، فأي أمة لا يمكن أن تسبق أجلها الذي حدده الله لها، ولا يمكن أن تنتهي أو تقوض قبل أن يحل هذا الأجل. لكن ما المراد بقوله سبحانه: {وما يستأخرون} كيف يتأتى ذلك؟ فهمنا: لا تسبق أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة، فلا يمكن أن تقوض قبل خمس عشرة، أما كونها تستأخر بعد أن بلغت العشرين إلى عشرة، فكيف يتم ذلك؟. نقول: لا تستأخر يعني: من حيث الحكم هي لا تسبق الأجل وهي محكوم عليها بأنها لا تستأخر، لأن الاستئخار بعد بلوغ الأجل مستحيل، كما لو قلنا: شخص بلغ سن العشرين لا يقدر أن يموت في العاشرة. فالمعنى: الأصل فيه أنه لا يستأخر.