ومن النخيل الباسقات ، أي : الطوال ، التي يطول{[815]} نفعها ، وترتفع إلى السماء ، حتى تبلغ مبلغًا ، لا يبلغه كثير من الأشجار ، فتخرج من الطلع النضيد ، في قنوانها ، ما هو رزق للعباد ، قوتًا وأدمًا وفاكهة ، يأكلون منه ويدخرون ، هم ومواشيهم .
وقوله : { تَبْصِرَةً وذكرى } علتان لما تقدم من الكلام ، وهما منصوبتان بفعل مقدر .
أى : فعلنا ما فعلنا من مد الأرض ، ومن تثبيتها بالجبال ، ومن إنبات كل صنف حسن من النبات فيها ، لأجل أن نبصر عبادنا بدلائل وحدانيتنا وقدرتنا ، ونذكرهم بما يجب عليهم نحو خالقهم من شكر وطاعة .
وقوله : { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } متعلق بكل من المصدرين السابقين وهما : التبصرة والذكرى . أى : هذه التبصرة والذكى كائنة لكل عبد منيب ، أى : كثير الرجوع إلى ربه بالتدبر فى بدائع صنعته ، ودلائل قدرته .
وعلى مشهد السماء المبنية المتطاولة الجميلة ، والأرض الممدودة الراسية البهيجة يلمس قلوبهم ، ويوجهها إلى جانب من حكمة الخلق ، ومن عرض صفحات الكون :
( تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ) . .
تبصرة تكشف الحجب ، وتنير البصيرة ، وتفتح القلوب ، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب ، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب . . تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب ، يرجع إلى ربه من قريب .
وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل . هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون ، والتعرف إليه أثرا في القلب البشري ، وقيمة في الحياة البشرية . هذه هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم . وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها " علمية " في هذا الزمان . فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه . فالناس قطعة من هذا الكون لا تصح حياتهم ولا تستقيم إلا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون ؛ وإلا حين تقوم الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير . وكل معرفة بنجم من النجوم ، أو فلك من الأفلاك ، أو خاصة من خواص النبات والحيوان ، أو خواص الكون كله على وجه الإجمال وما فيه من عوالم حية وجامدة - إذا كانت هناك عوالم جامدة أو شيء واحد جامد في هذا الوجود ! - كل معرفة " علمية " يجب أن تستحيل في الحال إلى إيقاع في القلب البشري ، وإلى ألفة مؤنسة بهذا الكون ، وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة بين الناس والأشياء والأحياء . وإلى شعور بالوحدة التي تنتهي إلى خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه . . وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر ، هي معرفة ناقصة ، أو علم زائف ، أو بحث عقيم !
إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح ، الذي يقرأ بكل لغة ، ويدرك بكل وسيلة ؛ ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ ، والمتحضر ساكن العمائر والقصور . كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده ، فيجد فيه زادا من الحق ، حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق . وهو قائم مفتوح في كل آن : ( تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ) . . ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين . لأنه في رؤوس مطموسة رانت عليها خرافة " المنهج العلمي " . المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه !
والمنهج الإيماني لا ينقص شيئا من ثمار " المنهج العلمي " في إدراك الحقائق المفردة . ولكنه يزيد عليه ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض ، وردها إلى الحقائق الكبرى ، ووصل القلب البشري بها ، أي وصله بنواميس الكون وحقائق الوجود ، وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في مشاعر الناس وحياتهم ؛ لا معلومات جامدة جافة متحيزة في الأذهان لا تفضي لها بشيء من سرها الجميل ! والمنهج الإيماني هو الذي يجب أن تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي يهتدي إليها بهذا الرباط الوثيق . .
وقوله : والأرْضَ مَدَدْناها يقول : والأرض بسطناها وألْقَيْنا فِيها رَوَاسِيَ يقول : وجعلنا فيها جبالاً ثوابت ، رست في الأرض ، وأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ يقول تعالى ذكره : وأنبتنا في الأرض من كلّ نوع من نبات حسن ، وهو البهيج . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بَهِيجٍ يقول : حسن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأَلْقَيْنا فِيها رَوَاسِيَ والرواسي الجبال وأَنْبَتْنا فيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهِيج : أي من كلّ زوج حسن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قلت لابن زيد البهيج : هو الحسن المنظر ؟ قال نعم : وقوله تَبْصِرَةً يقول : فعلنا ذلك تبصرة لكم أيها الناس بنصركم بها قدرة ربكم على ما يشاء ، وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ يقول : وتذكيرا من الله عظمته وسلطانه ، وتنبيها على وحدانيته لِكُلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ يقول : لكل عبد رجع إلى الإيمان بالله ، والعمل بطاعته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : تَبْصِرَة نعمة من الله يبصرها العباد وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ : أي مقبل بقلبه إلى الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : تَبْصِرَةً وَذِكْرَى قال : تبصرة من الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تَبْصِرَةً قال : بصيرة .
حدثنا ابن حُمَيد قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عطاء ومجاهد لِكُلّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قالا مجيب .