فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه ، يدعوهم إلى أكمل الأمور ، وينهاهم عن الأمور السيئة ، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم ، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه ، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد ، والخوف الذي هو ضد الأمن ، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم ، { وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .
ثم بين - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل هذه القرية الكافرة بأنعم الله فقال : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } .
أي : ولقد جاء إلى أهل هذه القرية رسول من جنسهم ، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأمرهم بطاعة الله وشكره ، ولكنهم كذبوه وأعرضوا عنه .
والتعبير بقوله : { جاءهم } ، يدل على أن هذا الرسول وصل إليهم وبلغهم رسالة ربه ، دون أن يكلفهم الذهاب إليه ، أو البحث عنه .
والتعبير بالفاء في قوله : { فكذبوه } ، يشعر بأنهم لم يتمهلوا ولم يتدبروا دعوة هذا الرسول ، وإنما قابلوها بالتكذيب السريع بدون روية ، مما يدل على غباوتهم وانطماس بصيرتهم .
وقوله - تعالى - { فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ } ، بيان للعاقبة السيئة التي حاقت بهم .
أي : فكانت نتيجة تكذيبهم السريع لنبيهم أن أخذهم العذاب العاجل الذي استأصل شأفتهم ، والحال أنهم هم الظالمون لأنفسهم ، لأن هذا العذاب ما نزل بهم إلا بعد أن كفروا بأنعم الله ، وكذبوا رسوله .
هذا ، والذي يتأمل هاتين الآيتين الكريمتين يراهما وإن كانتا تشملان حال كل قوم بدلوا نعمة الله كفرا . . إلا أنهما ينطبقان تمام الانطباق على كفار مكة .
وقد بين ذلك الإِمام الألوسي - رحمه الله - فقال ما ملخصه : وحال أهل مكة - سواء أضرب المثل لهم خاصة ، أم لهم ولمن سار سيرتهم كافة - أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب ، فقد كانوا في حرم آمن ، ويتخطف الناس من حولهم ، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء رزقا ، ولقد جاءهم رسول منهم تحار في سمو مرتبته العقول صلى الله عليه وسلم ، فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله ، وكذبوه صلى الله عليه وسلم ، فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف ، حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد جاء أهل هذه القرية التي وصف الله صفتها في هذه الآية التي قبل هذه الآية { رَسُولٌ مِنْهُمْ } يقول : رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، يقول : من أنفسهم يعرفونه ويعرفون نسبه وصدق لهجته ، يدعوهم إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم . { فَكَذّبُوهُ } ولم يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله . { فَأخَذَهُمُ العَذَابُ } وذلك لباس الجوع والخوف مكان الأمن والطمأنينة والرزق الواسع الذي كان قبل ذلك يرزقونه ، وقْتل بالسيف . { وَهُمْ ظالِمُونَ } يقول : وهم مشركون ، وذلك أنه قتل عظماؤهم يوم بدر بالسيف على الشرك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ } ، إي والله ، يعرفون نسبه وأمره . { فَكَذّبُوه فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُون } ، فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل .
والضمير في { جاءهم } ، لأهل مكة ، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، و { العذاب } ، الجوع وأمر بدر ونحو ذلك إن كان التمثيل بمكة وكانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فهو الجوع فقط ، وذكر الطبري أنه القتل ببدر ، وهذا يقتضي أن الآية نزلت بالمدينة ، وإن كان التمثيل بمدينة قديمة غير معينة ، فيحتمل أن يكون الضمير في { جاءهم } لأهل تلك المدينة ، ويكون هذا مما جرى فيها كمدينة شعيب وغيره ، ويحتمل أن يكون الضمير المذكور لأهل مكة وتأمل .
لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، وكان إنما ذكر مِن صُنعهم أنهم كفروا بأنعم الله ، زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عامّ لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمةَ الله ، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه منهم . وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرّفق بهم . وما من قرية أُهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها { وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا } [ سورة القصص : 59 ] .
والأخذ : الإهلاك . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } في سورة الأعراف ( 95 ) .
وتأكيد الجملة بلام القسم وحرففِ التّحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيهاً للسامعين المعرّض بهم لأنه محل الإنذار .
وتعريف { العذاب } للجنس ، أي فأخذهم عذاب كقوله : { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون } [ سورة الأعراف : 95 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد جاءهم رسول}، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، {منهم}، يعرفونه ولا ينكرونه، {فكذبوه فأخذهم العذاب}، يعني: الجوع سبع سنين، {وهم ظالمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد جاء أهل هذه القرية التي وصف الله صفتها في هذه الآية التي قبل هذه الآية {رَسُولٌ مِنْهُمْ} يقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، يقول: من أنفسهم يعرفونه ويعرفون نسبه وصدق لهجته، يدعوهم إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.
{فَكَذّبُوهُ} ولم يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله.
{فَأخَذَهُمُ العَذَابُ} وذلك لباس الجوع والخوف مكان الأمن والطمأنينة والرزق الواسع الذي كان قبل ذلك يرزقونه، وقْتل بالسيف.
{وَهُمْ ظالِمُونَ} يقول: وهم مشركون، وذلك أنه قتل عظماؤهم يوم بدر بالسيف على الشرك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَهُمْ ظالمون}، في حال التباسهم بالظلم، كقوله: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)، نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان تعالى لا يعذب حتى يبعث رسولاً، حقق ذلك بقوله تعالى: {ولقد جاءهم}، أي: أهل هذه القرية، {رسول منهم}، كما وقع لكم، {فكذبوه}، كما فعلتم، {فأخذهم العذاب}، كما سمعتم...
{وهم ظالمون}، أي: عريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها؛ لأنهم استمروا على كفرهم مع الجوع، وسألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الإغاثة فدعا لهم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ}، من تتمة المثَل، جيء بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط، بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على الخلق أيضاً... وفيه دَلالةٌ على تماديهم في الكفر والعِناد وتجاوزِهم في ذلك كلَّ حدَ معتاد. وترتيبُ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قولُه سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}، وبه يتم التمثيلُ؛ فإن حالَ أهل مكةَ سواءٌ ضُرب المثلُ لهم خاصة أو لمن سار سيرتَهم كافةً محاذيةٌ لحال أهلِ تلك القريةِ حذوَ القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فَذّة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما أخبر عنهم بأنهم أذيقوا لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، وكان إنما ذكر مِن صُنعهم أنهم كفروا بأنعم الله، زيد هنا أن ما كانوا يصنعون عامّ لكل عمل لا يرضي الله غير مخصوص بكفرهم نعمةَ الله، وإن من أشنع ما كانوا يصنعون تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه منهم. وذلك أظهر في معنى الإنعام عليهم والرّفق بهم. وما من قرية أُهلكت إلا وقد جاءها رسول من أهلها {وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا} [سورة القصص: 59]...
وتأكيد الجملة بلام القسم وحرفِ التّحقيق للاهتمام بهذا الخبر تنبيهاً للسامعين المعرّض بهم لأنه محل الإنذار...
وتعريف {العذاب} للجنس، أي فأخذهم عذاب كقوله: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} [سورة الأعراف: 95]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وذلك كقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)} [التوبة]...
وتنكير {رسول} للتعظيم، وإلى مكنته عند الله، وعندهم لأمانته وعفته ولصدقه... ولكنهم بدل أن يعالجوا بالإيمان عاجلوا بتكذيبه، ف (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي أن النتيجة جاءت على نقيض المقدمات... والعذاب هو عذاب الدنيا بالتقتيل فيهم وهزيمتهم، وذهاب سيطرتهم، وقيام الحق رغم أنوفهم، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فبالعذاب الأليم، وإلقائهم في الجحيم...
ثم قال تعالى: {وهم ظالمون}، الواو للحال، أي والحال أنهم ظالمون، فالعذاب نزل بهم، وهم أحق به، فهو بما كسبوه من تكذيب الحق، وتجاوزوا حد التكذيب إلى الظلم إذ صدوا عن سبيل الله وفتنوا المؤمنين في إيمانهم وعذبوهم، وحاولوا أن يردوهم عن دينهم فارتدوا خاسئين...
رأينا كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة، وقد تمثلت هذه النعمة في كونها آمنة مطمئنة، وهذه نعمة مادية يحفظ الله بها القالب الإنساني، لكنه ما يزال في حاجة إلى ما يحفظ قيمه وأخلاقه. وهذه هي نعمة النعم، وقد امتن الله عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولاً منهم، فما فائدة النعم المادية في بلد مهزوزة القيم، منحلة الأخلاق، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم ما اعوج من سلوكهم، ويصلح ما فسد من قيمهم ومبادئهم...
{فكذبوه}، وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال، وبما اشتهر به بينهم من الصدق والأمانة، ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا أيضاً بالنعم القيمية متمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم...
{فأخذهم العذاب}... لم تقل الآية: أخذهم الله بالعذاب، بل: أخذهم العذاب، كأن العذاب نفسه يشتاق لهم، وينقض عليهم، ويسارع لأخذهم، ففي الآية تشخيص يوحي بشدة عذابهم...