التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (113)

تعليق على جملة

{ ولقد جاءهم رسول منهم }

لقد وقف الطبري عند هذه الجملة فاستنبط منها ما يفيد أنها منطوية على تذكير العرب السامعين بأنهم يعرفون الرسول ويعرفون نسبه وصدق لهجته ، ولا يخلوا هذا من صواب ، وقد تضمن هذا المعنى آيات أخرى منها آيات سورة يونس [ 15-16 ] ، وآيات سورة المؤمنون [ 68-70 ] ، على ما نبهنا عليه في مناسباتها . وقد يصح أن يضاف هنا إلى هذا أن الجملة يمكن أن تكون انطوت أيضا على قصد التدليل على باعث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايتهم وتجرده عن المآرب والمقاصد في ذلك ، وهو شدة المعصية في ذلك الوقت في العرب التي تجعل العربي يتحمل كل تضحية في سبيل جر الذين ارتبط بهم برابطة الرحم والقبيلة وحياتهم وعزتهم والتضامن معهم . ثم على قصد بيان عظم فضل الله ونعمته بإرسال هاد إليهم منهم يكون فيه مثل هذا الباعث ، وكون إثم تكذيبهم له أشد واستحقاقهم للعذاب نتيجة لذلك أولى .

وقد لا تخلو الآية التي فيها الجملة على ضوء هذا التوضيح من تلقين مستمر المدى فيما يكون من وقوف الفئات المستكبرة المغرضة من دعاة الإصلاح والقادة المخلصين منهم الذين تكون دعوتهم وقيادتهم مجردة من المآرب وخالصة لوجه الله ومصلحتهم .

ولقد تكررت هذه الجملة في مقامات مماثلة للمقاصد نفسها ، وكان يأتي بدلا منهم ( منكم ) ، أو ( من أنفسكم ) ، أو من ( أنفسهم ) ، كما جاء في آية سورة البقرة هذه : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون 151 } ، وآية سورة آل عمران هذه : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 164 } ، وآيات سورة التوبة هذه : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم 128 فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم 129 } وآية سورة الجمعة هذه : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 2 } ، حيث يبدو من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار التنبيه والتوكيد على هذا الأمر لما انطوى فيه من مقاصد .

ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة كتوضيح لمدى تعبير ( من أنفسكم ) ، الذي هو في مقام ( منهم ) ، قولا لابن عباس جاء فيه : ( إنه ليس من العرب قبيلة إلا قد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب ، وفي رواية ليس من العرب قبيلة إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضرها وربيعها ويمنها ) {[1286]} .

والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قرشيا من ناحية الوالدين المباشرين ، حيث كان أبوه من بني هاشم وأمه من بني زهرة وكلاهما من قريش ، وقريش من عدنان حسب التقاليد المشهورة ، فإن أم أبيه كانت من بني النجار ، من الخزرج ، وهم قحطانيون ، حيث يصدق ما روي عن ابن عباس من انتساب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفرعين الرئيسيين الذين تفرع منهما جميع القبائل العربية في جنوب جزيرة العرب وشمالها .

ولقد أورد البغوي في سياق آية سورة التوبة أيضا حديثا رواه بطرقه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام ) . وأورد ابن كثير حديثا قريبا من هذا بطرق أخرى بقصد التدليل على سبب من أسباب ما كانت عليه أخلاق رسول الله المذكورة في الآية وهو الطهارة في النسب . والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ، ولكن ورد فيها أحاديث أقوى في الدلالة من هذا الحديث ، حيث روى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ) {[1287]} .

وحيث روى الترمذي عن العباس أنه قال للنبي : يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذكروا أحسابهم بينهم ، فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم ، من خير فرقهم ، وخير الفريقين ، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا ){[1288]} .


[1286]:انظر تفسير آيات التوبة في كتب تفسير ابن كثير والبغوي ورشيد رضا.
[1287]:التاج ج 3 ص 205.
[1288]:المصدر نفسه.