إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (113)

{ وَلَقَدْ جَاءهُمْ } ، من تتمة المثَل ، جيء بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط ، بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على الخلق أيضاً ، أي : ولقد جاء أهلَ تلك القرية ، { رَسُولٌ مّنْهُمْ } ، أي : من جنسهم يعرِفونه بأصله ونسبِه ، فأخبرهم بوجوب الشكرِ على النعمة ، وأنذرهم سوءَ عاقبة ما يأتون وما يذرون ، { فَكَذَّبُوهُ } ، في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر ، فالفاءُ فصيحةٌ وعدم ذكرِه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم ، { فَأَخَذَهُمُ العذاب } المستأصِلُ لشأفتهم غِبَّ ما ذاقوا نُبذةً من ذلك ، { وَهُمْ ظالمون } ، أي : حالَ التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفرانُ نعمِ الله تعالى وتكذيبُ رسوله ، غيرَ مُقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرةِ عنه ، وفيه دَلالةٌ على تماديهم في الكفر والعِناد وتجاوزِهم في ذلك كلَّ حدَ معتاد . وترتيبُ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قولُه سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } ، وبه يتم التمثيلُ ؛ فإن حالَ أهل مكةَ سواءٌ ضُرب المثلُ لهم خاصة أو لمن سار سيرتَهم كافةً محاذيةٌ لحال أهلِ تلك القريةِ حذوَ القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فَذّة ، كيف لا وقد كانوا في حرم آمنٍ ويُتخطف الناسُ من حولهم وما يمر ببالهم طيفٌ من الخوف ، وكانت تجبى إليه ثمراتُ كل شيء ، ولقد جاءهم رسولٌ منهم وأيُّ رسول ، يحار في إدراك سموِّ رتبتِه العقولُ صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول{[491]} ، فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله عليه السلام فأذاقهم الله لباسَ الجوعِ والخوف حيث أصابهم بدعائه عليه السلام بقوله : « اللهمَّ أعِنِّي عليهم بسبْعٍ كسبع يوسفَ » ، ما أصابهم من جدب شديدٍ وأزمة خصّت كلَّ شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجِيف والكلابِ الميتة والعظامِ المحرقة والعلهز وهو الوبرُ المعالَجُ بالدم ، وقد ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يُغيرون على مواشيهم وعِيرهم وقوافلهم ، ثم أخذهم يومَ بدرٍ ما أخذهم من العذاب .

هذا هو الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسنُ النظام ، وأما ما أجمع عليه أكثرُ أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَاءهُمْ } ، لأهل مكةَ قد ذُكر حالُهم صريحاً بعد ما ذكر مَثلُهم ، وأن المرادَ بالرسول محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وبالعذاب ما أصابهم من وقعة بدر فبمعزل من التحقيق ، كيف لا وقوله سبحانه : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } ، مفرّعٌ على نتيجة التمثيل ، وصدٌّ لهم عما يؤدّي إلى مثل عاقبته .


[491]:القبول : ريح الصبا. والدبور: ريح تهب من المغرب. وهما متقابلتان.