قوله تعالى : { فتنازعوا أمرهم بينهم } أي : تناظروا وتشاوروا . يعني : السحرة في أمر موسى سراً من فرعون . قال الكلبي : قالوا سراً إن غلبنا موسى اتبعناه . وقال محمد بن إسحاق : لما قال لهم موسى لا تفتروا على الله كذباً . قال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر { وأسروا النجوى } أي المناجاة يكون مصدراً واسماً .
وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب . لا جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كلام موسى ، وارتبكوا ، ولعل من جملة نزاعهم ، الاشتباه في موسى ، هل هو على الحق أم لا ؟ ولكن هم إلى الآن ، ما تم أمرهم ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى ، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة ، لينجحوا في مقالهم وفعالهم ، وليتمسك الناس بدينهم .
{ فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى } والنجوى : المسارة فى الحديث .
أى : وبعد أن سمع السحرة من موسى نصيحته لهم وتهديده إياهم بالاستئصال والهلاك . إذا ما استمروا فى ضلالهم ، اختلفوا فيما بينهم ، { وَأَسَرُّواْ النجوى } أى : وبالغوا فى إخفاء ما يسارون به عن موسى وأخيه - عليهما السلام - .
فمنهم من قال - كما روى عن قتادة - : إن كان ما جاءنا به موسى سحرا فسنغلبه ، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر .
ومنهم من قال بعد أن سمع كلام موسى : ما هذا بقول ساحر .
ومنهم من أخذ فى حض زملائه المترددين على منازلة موسى - عليه السلام - ، لأنه جاء هو وأخوه لتغيير عقائد الناس ولاكتساب الجاه والسلطان ، ولسلب المنافع التى تأتى لهم أى للسحرة عن طريق السحر . .
ويبدو أن هذا الفريق الأخير هو الذى استطاع أن ينتصر على غيره من السحرة فى النهاية ، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك : { قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَنَازَعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَىَ * قَالُوَاْ إِنْ هََذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ } .
يقول تعالى ذكره : فتنازع السحرة أمرهم بينهم . وكان تنازعهم أمرهم بينهم فيما ذكر أن قال بعضهم لبعض ، ما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " فَتَنازَعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وأسَرّوا النّجْوَى " قال السحرة بينهم : إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر .
وقال آخرون بل هو أن بعضهم قال لبعض : ما هذا القول بقول ساحر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه ، قال : جمع كلّ ساحر حباله وعصيه ، وخرج موسى معه أخوه يتكىء على عصاه ، حتى أتى المجمع ، وفرعون في مجلسه ، معه أشراف أهل مملكته ، قد استكَفّ له الناس ، فقال موسى للسحرة حين جاءهم : " وَيْلَكُمْ لا تَفْتَروا عَلى اللّهِ كَذِبا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرَى " فترادّ السحرة بينهم ، وقال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر .
وقوله : " وأسَرّوا النّجْوَى " يقول تعالى ذكره : وأسرّوا السحرة المناجاة بينهم .
فلما سمع السحرة هذه المقالة هالهم هذا المنزع ووقع في نفوسهم من مهابته أمر شديد { فتنازعوا } والتنازع يقتضي اختلافاً كان بينهم في السر أي قال بعضهم لبعض هو محق ، وقال بعضهم هو مبطل ، وقال بعضهم إن كان من عند الله فسيغلبنا ونحو هذا من الأقوال التي تعهد من الجموع الكثيرة في وقت الخوف كالحرب ونحو هذا ، ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى . وقالت فرقة إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا { إن هذان لساحران } ع والأظهر أن تلك قيلت علانية ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع ، و { النجوى } السرار والمساررة أي كان كل رجل يناجي من يليه ، ثم جعلوا ذلك سراً مخافة فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا حينئذ مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فتنازع السحرة أمرهم بينهم. وكان تنازعهم أمرهم بينهم فيما ذكر أن قال بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحرا فإنا سنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر...
وقال آخرون: ما هذا القول بقول ساحر...
وقوله:"وأسَرّوا النّجْوَى" يقول تعالى ذكره: وأسرّوا السحرة المناجاة بينهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله "فتنازعوا أمرهم "معناه: اختلفوا فيما بينهم. والتنازع: محاولة كل واحد من المختلفين نزع المعنى عن صاحبه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فلما سمع السحرة هذه المقالة هالهم هذا المنزع ووقع في نفوسهم من مهابته أمر شديد... {فتنازعوا} والتنازع يقتضي اختلافاً كان بينهم في السر أي قال بعضهم لبعض هو محق، وقال بعضهم هو مبطل، وقال بعضهم إن كان من عند الله فسيغلبنا ونحو هذا من الأقوال التي تعهد من الجموع الكثيرة في وقت الخوف كالحرب ونحو هذا، ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى. وقالت فرقة إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا {إن هذان لساحران} والأظهر أن تلك قيلت علانية ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع، و {النجوى} السرار والمساررة أي كان كل رجل يناجي من يليه، ثم جعلوا ذلك سراً مخافة فرعون أن يتبين فيهم ضعفاً لأنهم لم يكونوا حينئذ مصممين على غلبة موسى بل كان ظناً من بعضهم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والكلمة الصادقة تلمس بعض القلوب وتنفذ فيها. ويبدو أن هذا الذي كان؛ فقد تأثر بعض السحرة بالكلمة المخلصة، فتلجلج في الأمر؛ وأخذ المصرون على المباراة يجادلونهم همسا خيفة أن يسمعهم موسى: (فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي تفرع على موعظة موسى تنازُعهم الأمرَ بينهم، وهذا يؤذن بأن منهم من تركتْ فيه الموعظة بعضَ الأثر، ومنهم من خشي الانخذال، فلذلك دعا بعضهم بعضاً للتشاور فيما ذا يصنعون. والتنازل: تفاعل من النزع، وهو الجَذْب من البئر، وجَذْب الثوب من الجسد، وهو مستعمل تمثيلاً في اختلاف الرأي ومحاولة كل صاحب رأي أن يقنع المخالف له بأن رأيه هو الصواب، فالتنازع: التخالف.
والنّجوى: الحديث السريّ، أي اختَلَوْا وتحادثوا سِرّاً ليَصدروا عن رأي لا يطّلع عليه غيرهم، فجَعْلُ النجوى معمولاً ل {أسَرّوا} يفيد المبالغة في الكتمان، كأنه قيل: أسرّوا سرّهم، كما يقال: شعر شاعر.
وزادهُ مبالغة قوله {بَيْنَهُم} المقتضي أنّ النجوى بين طائفة خاصة لا يشترك معهم فيها غيرهم.
يبدو أن تخويف موسى لهم بقوله: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} قد أثر فيهم وأخافهم {فتنازعوا أمرهم} أخذوا يتساومون القول ويتبادلون الآراء. {وأسروا النجوى}: تحدثوا سرا، وهذا دليل خوفهم من كلام موسى، ودليل ما فيهم من استعداد للخير، لكن انتهى رأيهم إلى الاستمرار في الشوط إلى آخره.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} بما أثاره موسى في مشاعرهم وأفكارهم من الخوف والقلق والحيرة، لأنهم شعروا أن هذا الرجل ليس ساحراً، لأن لغة السحرة ليست لغة فكر وهدى وإيمان، بل هي لغة استعراضٍ للقوة، واستهانة بالآخرين، وشعور بالاستعلاء. ولهذا فقد دبَّ فيهم الخوف من صدق هذا الرجل، ومن قوته الروحية الخفية التي لا تتحرك من حالة استعراض ذاتي، وبدأ الخلاف بينهم، ولكن قوماً منهم، أو من خارجهم، حاولوا أن يصرفوا المسألة عن الموقع الحقيقي للنزاع والخلاف، وهو الإيمان بالله وحده، والكفر بكل الآلهة المزيفة المدّعاة، ليثيروا الجانب القومي أو الإقليمي الذي يربط الناس بالفئة الحاكمة من خلال الإيحاء بأنها هي التي تحمي للناس أرضهم ووجودهم فيها، أمام الجهات التي تريد أن تلغي وجودهم في أرضهم وتصادر حريتهم. وهكذا دبروا الفكرة بطريقة خفية، {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} وأخفوها وطرحوا الشعار المثير الذي يستهوي القلب،