{ 22 } { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ }
أي : لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب الله ، وإذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق ، لا يملك ضرا ولا رشدا ، ولا يمنع نفسه من الله [ شيئا ] إن أراده بسوء ، فغيره من الخلق من باب أولى وأحرى .
{ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أي : ملجأ ومنتصرا .
{ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ } أى : إنى لن يمنعنى أحد من الله - تعالى - إن أرادنى بسوء .
{ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أى : ولن أجد من دونه ملجأ أركن إليه . يقال : التحد فلان إلى كذا ، أى : مال إليه .
فالآية الكريمة بيان لعجزه صلى الله عليه وسلم عن شئون نفسه أمام قدرة خالقه - عز وجل - بعد بيان عجزه عن شئون غيره .
وقوله : قُلْ إنّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أحَدٌ من خلقه إن أرادني أمرا ، ولا ينصرني منه ناصر .
وذُكر أن هذه الاَية أُنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأن بعض الجنّ قال : أنا أجيره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ أنه ذكر له أن جنيا من الجنّ من أشرافهم ذا تَبَع ، قال : إنما يريد محمد أن نجيره وأنا أجيره فأنزل الله : قُلْ إنّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أحَدٌ .
وقوله : وَلَنْ أجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا يقول : ولن أجد من دون الله ملجأً ألجأ إليه ، كما :
حدثنا مهران ، عن سفيان وَلَنْ أجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا يقول : ولن أجد من دون الله ملجأً ألجأ إليه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَلَنْ أجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا : أي ملجأً ونصيرا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مُلْتَحَدا قال : ملجأً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَلَنْ أجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا يقول : ناصرا .
وجملتا { قل إني لن يجيرني } إلى { ملتحداً } معترضتان بين المستثنى منه والمستثنى ، وهو اعتراضُ ردَ لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآنُ إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم ، قال تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلاّ ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } [ يونس : 15 ] .
والملتحد : اسم مكان الالتحاد ، والالتحاد : المبالغة في اللحد ، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه ، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ ، أي العياذ بمكان يعصمه . والمعنى : لَن أجد مكاناً يعصمني .
و { من دونه } حال من { ملتحداً } ، أي ملتحداً كائناً من دون الله أي بعيداً عن الله غير داخل من ملكوته ، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة التي في ملك الله ، وذلك متعذر ، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف { لن } الدال على تأييد النفي .
و { مِن } في قوله : { مِن دونه } مزيدة جارة للظرف وهو ( دون ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل إني لن يجيرني من الله} يعني يمنعني من الله {أحد ولن أجد من دونه ملتحدا} يعنى ملجأ ولا حرزا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قُلْ إنّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أحَدٌ" من خلقه إن أرادني أمرا، ولا ينصرني منه ناصر.
" وَلَنْ أجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا": ولن أجد من دون الله ملجأً ألجأ إليه.
عن قتادة، في قوله: "مُلْتَحَدا": أي ملجأً ونصيرا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فكأنهم طلبوا منه ترك تبليغ الرسالة إلى قوم أو كتمان شيء ممّا أمر بإظهاره أو محاباة أحد من الأجلّة، فأمره أن يخبرهم أنه لا يجيره أحد من الله تعالى، لا يجد لنفسه ملجأ إن فعل ذلك سوى أن يبلغ رسالات ربه، فيجيره من عذابه، فيكون له عنده ملجأ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه، على معنى أنّ الله إن أراد به سوءاً من مرض أو موت أو غيرهما: لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه: والملتحد: الملتجأ، وأصله المدَّخل، من اللحد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقولهم {من دونه} أي من عند سواه.
و «الملتحد»: الملجأ الذي يمال إليه ويُركَن، ومنه الإلحاد الميل، ومنه اللحد الذي يمال به إلى أحد شقي القبر.
{ولن أجد من دونه ملتحدا} أي ملجأ وحرزا، قال المبرد: ملتحدا مثل قولك منعرجا، والتحد معناه في اللغة مال، فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما تبرأ عليه السلام من قدرته على نفعهم وضرهم، أمر بأن يخبرهم بأنه مربوب لله تعالى، يفعل فيه ربه ما يريد، وأنه لا يمكن أن يجيره منه أحد، ولا يجد من دونه ملجأ يركن إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أجاب من تشوف إلى علة صبره عن دفعهم عنه بما حاصله أنه لا شيء بيده، لأن إلهه من العظمة في إحاطة العلم والقدرة وأنه لا يخرج شيء عن مراده فلا يعجل في شيء بحيث لا يفعل إلا ما يريد سواء سئل أو لا، فكان ذلك ربما أوجب أن يظن منه صلى الله عليه وسلم موافقته لهم لئلا يضروه لأنهم يستعجلون في أذى من خالفهم، أجاب ما حاصله أنه بين ضررين أحدهما منهم إن خالفهم، والآخر منه سبحانه وتعالى إن أعرض عنه، وهو سبحانه وتعالى يرد أذاهم إن أراد، وهم لا يقدرون على رد أذاه بوجه فقال: {قل} أي لمن يدعوك إلى موافقتهم، وأكد لما في ظن كثير من الناس من أن الأسباب لا تتخلف فقال: {إني} وزاد في التأكيد لأن ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال: {لن يجيرني} أي فيدفع عني ما يدفع الجار عن جاره {من الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {أحد} أي كائناً من كان إن أرادني سبحانه بسوء. ولما كان من هو بهذه المثابة ربما هرب منه المطلوب قال مؤكداً: {ولن أجد} أي أصلاً.
ولما كانت كل رتبة دون رتبته، وكانت الرتب التي دون رتبته كثيرة جداً لما له من العلو المطلق ولغيره من مراتب السفول التي لا تحد، قال مشيراً لذلك بالجارّ: {من دونه} أي الله تعالى {ملتحداً} أي معدلاً وموضع ميل وركون ومدخلاً وملتجأ وحيلة، وإن اجتهدت كل الاجتهاد لأن اللحد أصله الميل ولا يقال إلا في ميل من حق إلى باطل، وألحد: جادل ومارى وركن.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قل: إني لن يجيرني من الله أحدا ولن أجد من دونه ملتحدا. إلا بلاغا من الله ورسالاته...
. وهذه هي القولة الرهيبة، التي تملأ القلب بجدية هذا الأمر.. أمر الرسالة والدعوة.. والرسول [صلى الله عليه وسلم] يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبيرة.. إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملجأ أو حماية، إلا أن أبلغ هذا الأمر، وأؤدي هذه الأمانة، فهذا هو الملجأ الوحيد، وهذه هي الإجارة المأمونة. إن الأمر ليس أمري، وليس لي فيه شيء إلا التبليغ، ولا مفر لي من هذا التبليغ. فأنا مطلوب به من الله ولن يجيرني منه أحد، ولن أجد من دونه ملجأ يعصمني، إلا أن أبلغ وأؤدي! يا للرهبة! ويا للروعة! ويا للجد! إنها ليست تطوعا يتقدم به صاحب دعوة. إنما هو التكليف. التكليف الصارم الجازم، الذي لا مفر من أدائه. فالله من ورائه! وإنها ليست اللذة الذاتية في حمل الهدى والخير للناس. إنما هو الأمر العلوي الذي لا يمكن التلفت عنه ولا التردد فيه! وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد.. إنها تكليف وواجب. وراءه الهول، ووراءه الجد، ووراءه الكبير المتعال!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قل لهم بأنّي لو خالفت أمر اللّه تعالى فسوف يحيق بي العذاب أيضاً ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عنّي عذابه: (قل إنّي لن يجيرني من اللّه أحدٌ ولا أجد من دونه ملتحداً) وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجيرني منه تعالى ولا شيء يمكنه أن يكون لي ملجأ، وهذا الخطاب يشير من جهة إلى:
الإقرار الكامل بالعبودية للّه تعالى،
وإلى نفي كلّ أنواع الغلو في شأن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أُخرى. ويشير من جهة ثالثة إلى أنّ الأصنام ليس فقط لا تنفع ولا تحمي، بل إنّ نفس الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً مع ما له من العظمة لا يمكنه أن يكون ملجأ من عذاب اللّه.
وينهي من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا يطلبون من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يريهم المعاجز الإلهية.