قوله تعالى : { وزكريا } ، هو زكريا بن آذن .
قوله تعالى : { ويحيى } ، وهو ابنه .
قوله تعالى : { وعيسى } ، وهو ابن مريم بنت عمران .
قوله تعالى : { وإلياس } ، واختلفوا فيه ، قال ابن مسعود : هو إدريس ، وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل ، والصحيح أنه غيره ، لأن الله تعالى ذكره في ولد نوح ، وإدريس جد أبي نوح ، وهو إلياس بن بشر ، بن فنحاص ، بن عيزار ، بن هارون ، بن عمران .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَزَكَرِيّا وَيَحْيَىَ وَعِيسَىَ وَإِلْيَاسَ كُلّ مّنَ الصّالِحِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وهدينا أيضا لمثل الذي هدينا له نوحا من الهدى والرشاد من ذرّيته زكريا بن أزن ابن بركيا ويحيى بن زكريا ، وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن أشيم بن أمور بن حزقيا ، وإلياس .
واختلفوا في إلياس ، فكان ابن إسحاق يقول : هو إلياس بن يسى بن فنخاص بن العيزار بن هارون ابن عمران ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . وكان غيره يقول : هو إدريس وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبيدة بن ربيعة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إدريس : هو إلياس ، وإسرائيل : هو يعقوب .
وأما أهل الأنساب فآنهم يقولون : إدريس جدّ نوح بن لمْك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ : هو إدريس بن يرد بن مهلائيل . وكذلك رُوِي عن وهب بن منبه .
والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب ، وذلك أن الله تعالى نسب إليه في هذه الاَية إلى نوح وجعله من ذرّيته ونوح : ابن إدريس عند أهل العلم ، فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبا إلى أنه من ذريته .
وقوله : كُلّ مِنَ الصّالِحِينَ يقول : من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا من الصالحين ، يعني : زكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس صلى الله عليهم .
وأمّا إلياس فهو المعروف في كتب الإسرائيليّين باسم إيليا ، ويسمّى في بلاد العرب باسم إلياس أو ( مَار إلياس ) وهو إلياس التشبي . وذكر المفسّرون أنّه إلياس بن فنحاص بن إلعاز ، أو ابن هارون أخي موسى فيكون من سبط لاوي . كان موجوداً في زمن الملك ( آخاب ) ملك إسرائيل في حدود سنة ثمان عشرة وتسعمائة قبل المسيح . وهو إسرائيلي من سكان ( جِلْعاد ) بكسر الجيم وسكون اللاّم صقع جبلي في شرق الأرْدُن ومنه بَعْلبك . وكان إلياس من سبط روبين أو من سبط جَاد . وهذان السّبطان هما سكّان صقع جِلْعاد ، ويقال لإلياس في كتب اليهود التشبي ، وقد أرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل لمّا عبدوا الأوثان في زمن الملك ( آخاب ) وعبدوا ( بَعْل ) صنم الكنعانيّين . وقد وعظهم إلياس وله أخبار معهم . أمره الله أن يجعل اليسع خليفة له في النّبوءة ، ثمّ رفع الله إلياس في عاصفة إلى السّماء فلم يُر له أثر بعدُ ، وخلفه اليسع في النّبوءة في زمن الملك ( تهورام ) بن ( آخاب ) ملك إسرائيل .
وقوله : { كلّ من الصّالحين } اعتراض . والتّنوين في كلّ عوض عن المضاف إليه ، أي كلّ هؤلاء المعدودين وهو يشمل جميع المذكورين إسحَاقَ ومن بعده .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضا لمثل الذي هدينا له نوحا من الهدى والرشاد من ذرّيته زكريا ويحيى بن زكريا، وعيسى ابن مريم ابنة عمران، وإلياس...
"كُلّ مِنَ الصّالِحِينَ": من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا من الصالحين، يعني: زكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس صلى الله عليهم.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
.. {كل من الصالحين} الكاملين في الصلاح وهو: الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
عطف على « نوحا هدينا» أي وهدينا من ذريته داود وسليمان إلخ. وقد جزم ابن جرير شيخ المفسرين بأن الضمير في ذريته لنوح وتابعه على ذلك بعض المفسرين واحتجوا بأنه أقرب في الذكر وبأن لوطا ويونس ليسا من ذرية إبراهيم، وزاد بعضهم أن ولد المرء لا يعد من ذريته فلا يقال أن إسماعيل من ذرية إبراهيم. وهذا القول لا يصلح لتصريح أهل اللغة بأن الذرية النسل مطلقا.
وأخذ بعضهم من قوله تعالى: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} أن الذرية تطلق على الأصول كما تطلق على الفروع، وذلك بناء على أن المراد بالفلك المشحون سفينة نوح. وقال بعضهم إن الذرية هنا للفروع المقدرة في أصلاب الأصول، والقول الآخر في الفلك المشحون، أنه سفين التجارة التي كان المخاطبون يرسلون فيها أولادهم يتجرون.
وذهب سائر المفسرين إلى أن الضمير عائد إلى إبراهيم لأن الكلام في شأنه، وما أتاه الله تعالى من فضله، وإنما ذكر نوحا لأنه جده، فهو لبيان نعم الله عليه في أفضل أصوله، تمهيدا لبيان نعمه عليه في الكثير من فروعه، ويزاد على ذلك أن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا، منفردا ومجتمعا، كما قال تعالى في سورة الحديد: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26] وقال بعض هؤلاء: إن يونس من ذرية إبراهيم، وإن لوطا ابن أخيه وقد هاجر معه فهو يدخل في ذريته بطريق التغليب، ويعد منها بطريق التجوز الذي يسمون به العم أبا، وتقدم بيان هذا التجوز في الكلام على أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم في فاتحة تفسير هذا السياق.
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات الثلاث أربعة عشر نبيا لم يرتبهم على حسب تاريخهم وأزمانهم لأنه أنزل كتابه هدى وموعظة لا تاريخا – ولا على حسب فضلهم ومناقبهم لأن كتابه ليس كتاب مناقب ومدائح وإنما هو كتاب تذكرة وعبرة، وقد جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم.
فالقسم الأول: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بين هؤلاء أن الله أتاهم الملك والإمارة، والحكم والسيادة، مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان كانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف وكان الأول أميرا غنيا عظيما محسنا، والثاني وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، ولكن كلا منهما قد ابتلى بالضراء فصبر، كما ابتلى بالسراء فشكر، وأما موسى وهارون فكانا حاكمين، ولكنهما لم يكونا ملكين، فكل زوجين من هؤلاء الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية، والترتيب بين الأزواج على طريق التدلي في نعم الدنيا، وقد يكون على طريق الترقي في الدين، فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا بنعم الدنيا، ودونهما أيوب ويوسف، ودونهما موسى وهارون، والظاهر أن موسى وهارون أفضل في هداية الدين وأعباء النبوة من أيوب ويوسف وأن هذين أفضل من داود وسليمان بجمعهما بين الشكر في السراء، والصبر في الضراء، والله أعلم.
وقد قال تعالى بعد ذكر هؤلاء {وكذلك نجزي المحسنين} أي بالجمع بين نعم الدنيا ورياستها بالحق، وهداية الدين إرشاد الخلق، وهذا كما قال الله تعالى في أحدهم يوسف {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} [يوسف: 22] فهو جزاء خاص بعضه معجل في الدنيا، أي ومثل هذا الجزاء في جنسه يجزي الله بعض المحسنين بحسب إحسانه في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من يرجئ جزاءه إلى الآخرة.
والقسم الثاني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا في الأنبياء عليهم السلام بشدة الزهد في الدنيا والإعراض عن لذاتها، والرغبة عن زينتها وجاهها وسلطانها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين، وهو أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم، وإن كان كل نبي صالحا ومحسنا على الإطلاق.
والقسم الثالث: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا أو سلطانها ما كان للقسم الأول، ولا من المغالبة في الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، وقد قفى على ذكرهم بالتفضيل على العالمين، الذي جعله الله تعالى لكل نبي على عالمي زمانه، فمن كان من النبيين منهم منفردا في عالم أو قوم كان أفضلهم على الإطلاق، وما وجد من نبيين فأكثر في عالم أو قوم فقد يكونون مع تفضيلهم على غيرهم، متفاضلين في أنفسهم، فلا شك أن إبراهيم أفضل من لوط المعاصر له، وأن موسى أفضل من أخيه هارون الذي كان وزيره، وأن عيسى أفضل من ابن خالته يحيى، صلوات الله عليهم أجمعين. وسيأتي ذكر بعضهم في بعض السور مفصلا وفي بعضها مختصرا، ولذلك نرجئ الكلام على كل منهم إلى تفسير تلك السور. والله المسؤول أن يوفقنا لتفسيرها وإتمام تفسير الكتاب العزيز على ما يحب ويرضى عز وجل.