محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (85)

[ 85 ] { وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ( 85 ) } .

{ ووهبنا له } أي : لإبراهيم عوضا عن قومه ، لما اعتزلهم وما يعبدون ، { إسحاق ويعقوب } أي ولدا ، وولد ولد ، لتقر عينه ببقاء العقب { كلا هدينا } أي : كلا منهما هديناه الهداية الكبرى ، بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة ، كما قال تعالى : { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب ، وكلا جعلنا نبيا }{[3543]} .

/ قال ابن كثير : يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، وذلك بعد أن طعن في السن ، وأيس وامرأته سارة ، من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك : { قالت يا ولتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ، إن هذا لشيء عجيب{[3544]} ، قالوا أتعجبين من أمر الله ، رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت ، إنه حميد مجيد }{[3545]} فبشروهما فتعجبت ، وبشروهما مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعقبا ، كما قال تعالى : { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين }{[3546]} . وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة . وقال : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب }{[3547]} أي : ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما ، فتقر أعينكما به ، كما قرت بوالده ، وإن الفرح بولد الولد شديد ، لبقاء النسل والعقب . ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ، وقعت البشارة به ، وبولد اسمه يعقوب ، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم ، وهاجر من بلادهم ، ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين ، من صلبه ، على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال تعالى : { فلما اعتزلهم وما يعبدون . . . } {[3548]} الآية .

{ ونوحا هدينا من قبل } أي : من قبله ، هديناه كما هديناه . وعد هداه نعمة على إبراهيم ، من حيث إنه أبوه ، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد .

/ قال ابن كثير : كل منهما له خصوصية عظيمة . أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض ، إلا من آمن به ، وهم الذين صحبوه في السفينة ، جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذريته . وأما الخليل إبراهيم عليه السلام ، فلم يبعث الله عز وجل بعده نبيا إلا من ذريته ، كما قال تعالى : { وجعلنا في ذرته النبوة والكتاب . . . } {[3549]} الآية . وقال تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب }{[3550]} . وقال تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا }{[3551]} .

وقوله تعالى : { ومن ذريته } الضمير لإبراهيم أو لنوح ، على ما يأتي ، { داود } عطف على { نوح } أي : وهدينا داود ، { وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } .

{ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين } .

{ وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين } .

اعلم أن المقصود من هذه الآيات ، وما قبلها ، وما يلحقها ، تعديد أنواع نعم الله تعالى فذكر تعالى أولا رفع درجته ، بإيتائه الحجة على قومه ، وتخصيصه بها ، ثم جعله عزيزا في الدنيا ، حسبا ونسبا ، أصلا وفرعا ، لأنه تولد من نوح أول المرسلين / رسالة عامة ، ووهبت له الذرية الطاهرة ، أنبياء البشر . ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في : { ومن ذريته } لإبراهيم ، لأن مساق النظم لبيان شؤونه العظيمة ، كأنه قيل : ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك إذ هدينا من ذريته داود . . . الخ ، فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات . وذكر نوح عليه السلام ، لأن كون إبراهيم من أولاده أحد موجبات رفعته كما تقدم . والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين .

ولا يقال : إن لوطا ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه ، لأنه يقال : إن العرب تجعل العم أبا ، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا : { نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق }{[3552]} ، مع أن إسماعيل عم يعقوب ، ودخل في آبائه تغليبا .

وقال محيي السنة رحمه الله تعالى : { ومن ذريته } أي : ذرية نوح صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، لأنه ذكر في جملتهم يونس صلى الله عليه وسلم ، وكان من الأسباط ، في زمن شعياء ، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل .

وقال : إن لوطا عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام ، آمن بإبراهيم ، وشخص معه مهاجرا إلى الشام ، فأرسله الله إلى أهل سدوم .

ومن قال : الضمير لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، يقدر : ومن ذرية إبراهيم وداود وسليمان هدينا . لأن إبراهيم وهو المقصود بالذكر . وذكر نوح لتعظيم إبراهيم . ولذلك ختم بيونس ولوط ، وجعلهما معطوفين على { نوحا هدينا } من عطف الجملة على الجملة . وصاحب ( الكشف ) أخرج ( إلياس ) صلى الله عليه وسلم . وليس كذلك . لما في ( جامع الأصول ) عن الكسائي ، أنهما من ذريته . فبقي لوط خارجا . ولما كان ابن أخيه آمن به ، وهاجر معه ، أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب- كما ذكره الطيبي- .

/ وبالجملة ، فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين ، لأن شرف الذرية وشرف الأقارب شرف ، لكنه على الأول أظهر ، ويكون تطرية في مدح إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالعود إليه مرة بعد أخرى .

تنبيهات :

الأول- قال الحافظ ابن كثير : في ذكر عيسى عليه السلام ، في ذرية إبراهيم أو نوح ( على القول الآخر ) دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ، لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليهما السلام . وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، تجده في كتاب الله وقد قرأته من أوله إلى آخر فلم أجده  ! ؟ قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : { من ذريته داود وسليمان . . . حتى بلغ : ويحيى وعيسى } قال : بلى  ! قال أليس من ذرية إبراهيم ، وليس له أب ؟ قال : صدقت  ! فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته ، أو وقف على ذريته ، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم . فأما إذا أعطى الرجل بنيه ، أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه ، وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر :

بنونا بنو ابنائنا . وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وقال آخرون : يدخل بنو البنات فيهم ، لما ثبت في ( صحيح البخاري ) {[3553]} : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم / قال للحسن بن علي : إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " . فسماه ( ابنا ) فدل على دخوله في الأبناء . وقال آخرون : هذا تجوز . انتهى .

وفي ( العناية ) : أورد على الاستدلال بتناول الذرية أولاد البنت من هذه الآية ، بأن عيسى عليه السلام ليس له أب ، يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه ، فلا يظهر قياس غيره عليه . والمسألة مختلف فيها ، والقائل بها استدل بهذه الآية ، وآية المباهلة ، حيث دعا صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما بعدما نزل : { ندع أبناءنا وأبناءكم }{[3554]} . إن لم نقل إنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم . انتهى .

الثاني- إنما لم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق ، بل أخر ذكره عنه ، لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم . ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يحتج على العرب في نفي الشرك بأن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون ، إلى عبادة الله وحده ، رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ، ومنها إيتاؤه أولادا أنبياء . فإذا كان المحتج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يذكر في هذا المعرض . ولهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق- أفاده الرازي- .

الثالث- اعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبيا من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب لا بحسب الزمان ؛ ولا بحسب الفضل ، لأن الواو لا تقتضي الترتيب ولكن هنا لطيفة في هذا الترتيب ، وهي أن الله خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل ، فذكر أولا نوحا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أصول/ الأنبياء ، وإليهم ترجع أنسابهم جميعا . ثم من المراتب المعتبرة ، بعد النبوة ، الملك والقدرة والسلطان . وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظا وافرا . ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد ، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام . ؟ ثم عطف على هاتين المرتبتين من جمع بينهما ، وهو يوسف عليه السلام ، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة . ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليهم السلام كثرة المعجزات ، وقوة البراهين ، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر . ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا ، والإعراض عنها ، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليه السلام ، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين . ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء ، من لم يبق له أتباع ولا شريعة ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط . فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه ، كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر ، والله أعلم بمراده ، وأسرار كتابه- أفاده الخازن وأصله للرازي- .

الرابع- استدل بقوله تعالى : { وكلا فضلنا على العالمين } من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة . لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل فيه الملك .

الخامس- نكتة ذكر ( الهداية ) في قوله تعالى : { كلا هدينا } هو تعديد النعم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم بشرف الأصول والفروع – كما أسلفنا- والولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهديا .

السادس- قال السيوطي في ( الإكليل ) : استدل بقوله تعالى : { كلا هدينا ونوحا هدينا } من أنكر إفادة التقديم الحصر .


[3543]:- [19/ مريم / 49].
[3544]:- [11/ هود/ 72].
[3545]:- [11/ هود/ 73].
[3546]:- [37/ الصافات/ 112].
[3547]:- [11/ هود/ 71] ونصها: {وامرأته قائمة فضحكت...}.
[3548]:- [19/ مريم/ 49] ونصها: {... فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49)}.
[3549]:- [29/ العنكبوت/ 27] ونصها: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين (27)}.
[3550]:- [57/ الحديد/ 26] ونصها: {... فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (26)}.
[3551]:- [19/ مريم/ 58].
[3552]:- [2/ البقرة/ 133] ونصها: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)}.
[3553]:- أخرجه البخاري في: 92- كتاب الفتن، 20- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي: إن ابني هذا لسيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين، حديث 1307 ونصه: حدثنا الحسن قال: لما سار الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية بالكتائب، قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرى كتيبة لا تولي حتى تدبر أخراها. قال معاوية: من لذراري المسلمين؟ قال الحسن: ولقد سمعت أبا هريرة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين".
[3554]:- [3/ آل عمران/ 61] ونصها: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين(61)}.