القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً * وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ لَهُمْ مّنَ اللّهِ فَضْلاً كِبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد إنّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدا على أمتك بإبلاغك إياهم ما أرسلناك به من الرسالة ، ومبشرهم بالجنة إن صدّقوك وعملوا بما جئتهم به من عند ربك ، وَنَذِيرا من النار أن يدخلوها ، فيعذّبوا بها إن هم كذّبوك ، وخالفوا ما جئتهم به من عند الله . وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثتا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا أيّها النّبِيّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدا على أمتك بالبلاغ ، ومبشرا بالجنة ، وَنَذِيرا بالنار .
هذه الآية فيها تأنيس للنبي عليه السلام وللمؤمنين وتكريم لجميعهم ، و { شاهداً } ، معناه على أمتك بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم في تبليغ أنبيائهم ونحو ذلك و { مبشراً } معناه للمؤمنين ، برحمة الله تعالى وبالجنة ، { ونذيراً } معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد ، قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ومعاذاً فبعثهما إلى اليمن وقال «اذهبا فبشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا فإني قد أنزل علي » وقرأ الآية{[9534]} .
هذا النداء الثالث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بذاته ، وبالنداء الثاني ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير ، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه ، وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته ، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة .
وذُكر له هنا خمسةُ أوصاف هي : شاهد . ومبشّر . ونذير . وداع إلى الله . وسراج منير . فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة .
والشاهد : المخبر عن حجة المدعي المحقّ ودفع دعوى المبطل ، فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاءِ ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة ، قال تعالى : { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] . وفي حديث الحشر : « يُسأل كل رسول هل بلّغ ؟ فيقول : نعم . فيقول الله : مَن يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته » . الحديث .
ومحمد صلى الله عليه وسلم شاهد أيضاً على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عَرَصات القيامة ، قال تعالى : { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها ، وعلى من استجاب للدعوة ثم بَدّل . وفي حديث الحَوض : « ليَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ حتى إذا رأيتُهم وعرفتُهم اختُلجوا دوني فأقول : يا رب أُصَيْحَابي أُصَيْحَابي . فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تَبًّا وسُحْقاً لمَن أحدث بعدي » يعني : أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث : « إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم » . فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولاً لهذه الأمة ، وبوصف كونه خاتماً للشرائع ومتمّماً لِمراد الله من بعثة الرسل .
والمبشر : المخبر بالبُشرى والبِشارة . وهي الحادث المسرّ لمن يخبر به والوعد بالعطية ، والنبي صلى الله عليه وسلم مبشر لأَهل الإِيمان والمطيعين بمراتب فوزهم . وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى ، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل .
وقدمت البِشارة على النِذارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين ، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته .
والنذير : مشتق من الإِنذار وهو الإِخبار بحلول حادث مسيء أو قُرْب حلوله ، والنبي عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم .
وانتصب { شاهداً } على الحال من كاف الخطاب وهي حال مقدرة ، أي أرسلناك مقدَّراً أن تكون شاهداً على الرسل والأمم في الدنيا والآخرة . ومثّل سيبويه للحال المقدرة بقوله : مُررت برجل معه صقر صائِداً به .
وجيء في جانب النِذارة بصيغة فَعيل دون اسم الفاعل لإِرادة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم . ومن الأَمثال : أنا النذير العُريان ، أي الآتي بخبر حلول العدوّ بديار قوم . والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه ، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } [ سبأ : 46 ] للإِيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حلّ بهم وكأنَّ المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع ، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير ، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقلّ الوصف بمنذر . وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أُنزل عليه : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] خرج حتى صعد الصفا ، فنادى : يا صباحاه ( كلمة ينادِي بها من يطلب النجدة ) فاجتمعوا إليه فقال : أرأيتُم إن أخبرتكم أن خَيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقيَّ ؟ قالوا : نعم . قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد » . فهذا يشير إلى تمثيل الحالة التي استخلصها بقوله : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . وما في { بين يدي عذاب } من معنى التقريب .
وشمل اسم النذير جوامعَ ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسمي التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المُقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل .