ثم هم لا يكتفون بهذا الجمود والتحجر ، بل يصفون نبيهم بما هو برىء منه فيقولون : { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ } .
والجِنَّة : الجنون ، يقال جُنًّ : فلان إذا أصيب بالجنون ، أو إذا مسه الجن فصار فى حالة خبل وجنون .
والتربص : الانتظار والترقب ، أى : ما نوح - عليه السلام - الذى يدعى النبوة ، إلا رجل به حالة من الجنون والخبل ، فانتظروا عليه إلى وقت شفائه من هذا الجنون أو إلى وقت موته ، وعندئذ تستريحون منه ، ومن دعوته التى ما سمعنا بها فى آبائنا الأولين .
فأنت ترى أن القوم قد واجهوا نبيهم نوحاً - عليه السلام - بأقبح مواجهة حيث وصفوه بأنه يريد من وراء دعوته لهم السيادة عليهم ، وأنه ليس نبيًّا لأن الأنبياء لا يكونون من البشر - فى زعمهم - وأنه قد خالف ما ألفوه عن آبائهم ، ومن خالف ما كان عليه آباءهم لا يجوز الاستماع إليه ، وأنه مصاب بالجنون وأنه عما قريب سيأخذه الموت ، أو يشفى مما هو فيه .
وهكذا الجهل والغرور والجحود . . . عندما يستولى على الناس ، يحول فى نظرهم الإصلاح إلى إفساد ، والإخلاص إلى حب للرياسة ، والشىء المعقول المقبول . إلى أن شىء غير معقول وغير مقبول ، وكمال العقل وردحانه ، إلى جنونه ونقصانه .
وصدق الله إذ يقول : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً . . . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هو} يعنون نوحا {إلا رجل به جنة}، يعني: جنونا، {فتربصوا به حتى حين}، يعنون الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني ذكره مخبرا عن قيل الملأ الذين كفروا من قوم نوح "إنْ هُوَ إلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنّةٌ": ما نوح إلا رجل به جنون. وقد يقال أيضا للجنّ جنة، فيتفق الاسم والمصدر، و« هو» من قوله: إن هو كناية اسم نوح.
"فَتَرَبّصُوا بِهِ حتى حِينٍ": فتلبثوا به، وتنظروا به "حتى حين": إلى وقت ما، ولم يَعْنُوا بذلك وقتا معلوما، إنما هو كقول القائل: دعه إلى يوم مّا، أو إلى وقت مّا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن هو إلا رجل به جنة} قد عرفوا أنه ليس به جنون ولكن أرادوا التلبيس والتمويه على قومهم حين خالفهم في جميع أمورهم، وعادى الرؤساء منهم والقادة، ويقولون: ما يفعل هذا إلا لجنون فيه وآفة أصابته في عقله.. ثم قالوا: {فتربصوا به حتى حين} لسنا ندري ما أرادوا بالحين: أرادوا الموت أو وقت ارتفاع ما قالوا فيه من الجنون أو أرادوا وقتا آخر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فتربصوا} معناه: فاصبروا وانتظروا هلاكه، و {حتى حين} معناه إلى وقت ولم يعينوه وإنما أرادوا إلى وقت يريحكم القدر منه.
الشبهة الرابعة: قولهم: {إن هو إلا رجل به جنة} والجنة: الجنون أو الجن، فإن جهال العوام يقولون في المجنون زال عقله بعمل الجن، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم، فأولئك الرؤساء كانوا يقولون للعوام إنه مجنون، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا.
الشبهة الخامسة: قولهم: {فتربصوا به حتى حين} وهذا يحتمل أن يكون متعلقا بما قبله أي أنه مجنون فاصبروا إلى زمان حتى يظهر عاقبة أمره، فإن أفاق وإلا قتلتموه...
فهذه مجموع الشبه التي حكاها الله تعالى عنهم، واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عنها لركاكتها ووضوح فسادها...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه الشبه التي أوردوها معارضة لنبوة نبيهم، دالة على شدة كفرهم وعنادهم، وعلى أنهم في غاية الجهل والضلال، فإنها لا تصلح للمعارضة بوجه من الوجوه، كما ذكرنا، بل هي في نفسها متناقضة متعارضة...
ويأبى الله إلا أن يظهر خزي من عاداه وعادى رسله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون، إنما هم يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون. وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر، والتخلية بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود. فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح والاتهام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنه موقف مرتبك متخبط يدفعهم إلى البحث عن كلمةٍ أية كلمةٍ لمواجهة دعوة الرسول، وهم بنتيجته يرفضون الرسالة لبشر، ويرضون الألوهية للحجر، وينكرون المبدأ في هويّة صاحب الرسالة، ثم يحكمون عليه بالجنون دون أيّ دليل على ذلك، فهم لم يروا في شخصيته أيّ خلل في رأيٍ أو سلوك، ولكنه المأزق الذي يعيشه أصحاب الكفر والضلال، فيبحثون عما يؤكدون به ضلالهم حتى بالباطل.. وتلك هي قصة الناس في كل زمان ومكان، في تنكّرهم للحق، وإصرارهم على العناد، دون إعمال الفكر والوجدان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(إن هو إلاّ رجل به جنّة فتربّصوا به حتّى حين).
واستخدم المشركون تعبير (به جنّة) ضدّ هذا النّبي المرسل أي به (نوع من أنواع الجنون) ليغطّوا على حقيقة واضحة، فكلام نوح (عليه السلام) خير دليل على رجحان علمه وعقله، وكانوا يبغون في الحقيقة أن يقولوا: كلّ هذه الاُمور صحيحة، إلاّ أنّ الجنون فنون له صوراً متباينة قد يقترن أحدها بالعقل!!
أمّا عبارة (فتربّصوا به حتّى حين) فقد تكون إشارة إلى انتظار موت نوح (عليه السلام) من قبل المخالفين الذين ترقّبوا موته لحظة بعد أُخرى ليريحوا أنفسهم، ويمكن أن تعني تأكيداً منهم لجنونه، فقالوا: انتظروا حتّى يشفى من هذا المرض.
وعلى كلّ حال فإنّ المخالفين وجّهوا إلى نوح (عليه السلام) ثلاثة اتهامات واهية متناقضة، واعتبروا كلّ واحد منها دليلا ينفي رسالته:
الأوّل: إنّ ادّعاء البشر بأنّهم رسل الله ادّعاء كاذب، حيث لم يحدث مثل هذا في السابق، ولو شاء الله ذلك لبعث ملائكته رسلا إلى الناس!
والثّاني: إنّه رجل سلطوي، وكلامه ادّعاء لتحقيق هدفه!
والثّالث: إنّه لا يملك عقلا سليماً، وكلّ ما يقوله هو كلام عابر!
وبما أنّ جواب هذه الاتهامات الواهية أمر واضح جدّاً، وقد جاء في آيات قرآنية أُخرى، لهذا لم يتطرّق إلى ردّها في هذه الآيات. لأنّه من المؤكّد من جهة أن يكون قائد الناس أحدهم ومن جنسهم، ليكون على علم بمشاكلهم ويحسّ بآلامهم، إضافةً إلى ذلك فإنّ جميع الأنبياء كانوا من البشر. ومن جهة أُخرى يتّضح لنا خلال تصفّح تأريخ الأنبياء واستعراض حياتهم، أنّ قضيّة الاُخوّة والتواضع، تنفي أيّة صفة سلطوية عنهم، كما ثبت رجحان عقلهم وتدبيرهم حتّى عند أعدائهم، حيث نجدهم يعترفون بذلك خلال أقوالهم.