وقوله - سبحانه - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } أى : وحق النفوس ، وحق من أنشأها من العدم فى أحسن تقويم ، وجعلها مستعدة لتلقى ما يكملها ويصحلها .
ويبدو أن المراد بالنفس هنا : القوة المدبرة للإِنسان ، يكون المقصود بتسويتها . منحها القوى الكثيرة المتنوعة ، التى توصلها إلى حسن المعرفة ، والتمييز بين الخير والشر ، والنفع والضر ، والهدى والضلال .
قالوا : وقوله : - تعالى - بعد ذلك : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } يشير إلى أن المراد بالنفس فى قوله - تعالى - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } القوة المدبرة للإِنسان ، والتى عن طريقها يدرك الأمور إدراكا واضحا ، ويختار منها ما يناسب استعداده
وقوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } أي : خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة ، كما قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " .
أخرجاه من رواية أبي هريرة{[30128]}
وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حمار المجاشعي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " {[30129]} .
والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها وجعل الماءات مصدرية يجرد الفعل عن الفاعل ويخل بنظم قوله فألهمها فجورها وتقواها بقوله وما سواها إلا أن يضمر فيه اسم الله للعلم به وتنكير نفس للتكثير كما في قوله تعالى علمت نفس أو للتعظيم والمراد نفس آدم وإلهام الفجور والتقوى إفهامهما وتعريف حالهما أو التمكين من الإتيان بهما .
و« النفس » : ذات الإِنسان كما تقدم عند قوله تعالى : { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] وتنكير « نفس » للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموماً بالقرينة على نحو قوله تعالى : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } [ الانفطار : 5 ] .
وتسوية النفس : خلقها سواء ، أي غير متفاوتة الخَلْق ، وتقدم في سورة الانفطار ( 7 ) عند قوله تعالى : { الذي خلقك فسواك . } ومَا } في المواضع الثلاثة من قوله : { وما بناها } ، أو { ما طحاها } ، { وما سواها } ، إمّا مصدرية يؤوَّلُ الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعةُ السماء وطَحْوُهُ الأرض وتسويته الإِنسان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "وَنَفْسٍ وَما سَوّاها" يعني جلّ ثناؤه بقوله : "وَما سَوّاها" نفسه ، لأنه هو الذي سوّى النفسَ وخلقها ، فعدّل خلقها ، فوضع «ما » موضع «مَنْ » ، وقد يُحتمل أن يكون معنى ذلك أيضا المصدر ، فيكون تأويله : ونفس وتسويَتها ، فيكون القسم بالنفس وبتسويتها .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قالوا : تسويتها في أن خلقها باليدين والرجلين والعينين ونحوها ... ويحتمل { سواها } على ما عليه مصلحتها ، فتملك التقلب والتعيش ، ليس على ما عليه سائر الحيوان . ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون قوله : { وسواها } أي جعلها بحيث احتمال الكلفة والمحنة كقوله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى } [ القصص : 14 ] يميز بين القبيح والحسن ، ويعرف عواقب الأمور من الخير والشر . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت : لم نكرت النفس ؟ قلت : فيه وجهان؛
أحدهما : أن يريد نفساً خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم ، كأنه قال : وواحدة من النفوس .
والثاني : أن يريد كل نفس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والنفس التي أقسم بها ، اسم الجنس ، وتسويتها إكمال عقلها ونظرها ، ولذلك ربط الكلام بقوله تعالى : { فألهمها } الآية فالفاء تعطي أن التسوية هي هذا الإلهام . ...
إن حملنا النفس على الجسد ، فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح ، وإن حملناها على القوة المدبرة ، فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة ، على ما يشهد به علم النفس ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي : خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
سواها : أي ركب فيها القوى الظاهرة والباطنة ، وجعل لكل منها وظيفة تؤديها ثم أقسم بعد هذا بالنفس الإنسانية لما لها من شرف في هذا الوجود فقال : { ونفس وما سواها } أي قسما بالنفس ومن سواها وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة ، وحدد لكل منها وظيفة تؤديها ، وألف لها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم ، مرتبطة بالكون ومشاهده وظواهره . وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق :
( ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ) . .
وهذه الآيات الأربع ، بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة :( وهديناه النجدين ) . . وآية سورة الإنسان :( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) . . تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام . . وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان ، كقوله تعالى في سورة " ص " :( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) . . كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التبعة الفردية :كقوله تعالى في سورة المدثر :( كل نفس بما كسبت رهينة ) . . والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان ، كقوله تعالى في سورة الرعد : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها . .
إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة ، مزدوج الاستعداد ، مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه [ من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه ] مزود باستعدادات متساوية للخير والشر ، والهدى والضلال . فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر . كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء . وأن هذه القدرة كامنة في كيانه .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
جعلها سوية تامة الصفات والمظاهر خلقا وعقلا . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأخيراً القسم الحادي عشر والقسم الثّاني عشر بالنفس الإنسانية وبارئها : ( ونفس وما سوّاها ) . قيل إنّ المراد بالنفس هنا روح الإنسان ، وقيل إنّه جسمه وروحه معاً . ولو كان المراد من النفس الروح ، «سواها » تعني إذن نظمها وعدّل قواها ابتداء من الحواس الظاهرة وحتى قوّة الإدراك ، والذاكرة ، والانتقال ، والتخيل ، والابتكار ، والعشق ، والإرادة ، والعزم ونظائرها من الظواهر المندرجة في إطار «علم النفس » . ولو كان المراد من النفس الروح والجسم معاً ، فالتسوية تشمل أيضاً ما في البدن من أنظمة وأجهزة يدرسها علم التشريح وعلم الفسلجة . وفي القرآن الكريم وردت «نفس » بكلا المعنيين ، بمعنى الروح ، كقوله سبحانه في الآية ( 42 ) من سورة الزمر : ( اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها . . . )وبمعنى الجسم ، كقوله سبحانه في الآية ( 33 ) من سورة القصص : ( قال ربّ إنّي قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون ) . والأنسب هنا أن يكون معنى النفس هنا شاملاً للمعنيين لأن قدرة اللّه سبحانه تتجلى في الاثنين معاً . ويلاحظ أن الآية ذكرت كلمة «نفس » نكرة وفي ذلك إشارة إلى ما في النفس من عظمة تفوق قدرة التصوّر وإلى ما يحيطها من إبهام ، يجعلها موجوداً مجهولاً . وهذا ما حدا ببعض العلماء المعاصرين أن يتحدث عن الإنسان في كتابه تحت عنوان : «الإنسان ذلك المجهول » . ...