ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المكذبين فقال : { قُتِلَ الخراصون الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } .
والخراصون : جمع خرَّاص ، وأصل الخَرْص : الظن والتخمين ، ومنه الخارص الذى يخرص النخلة ليقدر ما عليها من ثمر ، والمراد به هنا : الكذب ، لأنه ينشأ غالبا عن هذا الخرص ، والمراد بالآية الدعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله - تعالى .
أى : لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - هؤلاء الكذابون ، الذين قالوا فى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو منزه عنه . . .
وقوله : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } قال مجاهد : الكذابون . قال : وهي مثل التي في عبس : { قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] ، والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } أي : لعن المرتابون .
وهكذا كان معاذ ، رضي الله عنه ، يقول في خطبه : هلك المرتابون . وقال قتادة : الخراصون أهل الغرة والظنون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُتِلَ الْخَرّاصُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيّانَ يَوْمُ الدّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لُعِن المتكهنون الذين يتخرّصون الكذب والباطل فيتظننونه .
واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله قُتِلَ الخَرّاصُونَ فقال بعضهم : عُنَي به المرتابون . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ يقول : لعن المُرتابون .
وقال آخرون في ذلك بالذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ قال : الكهنة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قُتِلَ الخَرّاصُونَ قال : الذين يتخرّصون الكذب كقوله في عبس قُتِلَ الإنْسانُ ، وقد حدثني كل واحد منهما بالإسناد الذي ذكرت عنه ، عن مجاهد ، قوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ قال : الذين يقولون : لا نُبْعَث ولا يُوقِنون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُتِلَ الخَرّاصُونَ : أهل الظنون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ قال : القوم الذين كانوا يتخرّصون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت طائفة : إنما هو ساحر ، والذي جاء به سحر . وقالت طائفة : إنما هو شاعر ، والذي جاء به شعر وقالت طائفة : إنما هو كاهن ، والذي جاء به كهانة وقالت طائفة أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلاً يتخرّصون على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
دعاء بالهلاك على أصحاب ذلك القول المختلف لأن المقصود بقتلهم أن الله يهلكهم ، ولذلك يكثر أن يقال : قاتله الله ، ثم أجري مجرى اللعن والتحقير والتعجيب من سوء أحوال المدعو عليه بمثل هذا .
وجملة الدعاء لا تعطف لأنها شديدة الاتصال بما قبلها مما أوجب ذلك الوصف لدخولهم في هذا الدعاء ، كما كان تعقيب الجمل التي قبلها بها إيماء إلى أن ما قبلها سبب للدعاء عليهم ، وهذا من بديع الإيجاز .
والخرص : الظن الذي لا حجة لصاحبه على ظنه ، فهو معرَّض للخطأ في ظنه ، وذلك كناية عن الضلال عمداً أو تساهلاً ، فالخرّاصون هم أصحاب القول المختلف ، فأفاد أن قولهم المختلف ناشىء عن خواطر لا دليل عليها . وقد تقدم في الأنعام ( 116 ) { إن يتّبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } فالمراد هنا الخرص بالقول في ذات الله وصفاته .
واعلم أن الخرص في أصول الاعتقاد مذموم لأنها لا تبنى إلا على اليقين لخطر أمرها وهو أصل محل الذم في هذه الآية . وأما الخرص في المعاملات بين الناس فلا يذم هذا الذّمَّ وبعضه مذموم إذا أدى إلى المخاطرة والمقامرة . وقد أذن في بعض الخرص للحاجة . ففي « الموطأ » عن زيد بن ثابت وأبي هريرة « أن النبيء صلى الله عليه وسلم رخّص في بيع العرايا بخرصها » يعني في بيع ثمرة النخلات المعطاة على وجهة العَريَّة وهي هبة مالك النخل ثمر بعض نخله لشخص لسنة معينة فإن الأصل أن يقبِض ثمرتها عند جذاذ النخل فإذا بَدَا لصاحب الحائط شراءُ تلك الثمرة قبل طيبها رخص أن يبيعها المُعْرَى ( بالفتح ) للمُعْرِي بالكسر إذا أراد المعري ذلك فيخرص ما تحمِله النخلات من الثمر على أن يعطيه عند الجذاذِ ما يساوي ذلك المخروص إذا لم يكن كثيراً وحُدد بخمسة أوسق فأقل ليدفع صاحب النخل عن نفسه تطرق غيره لحائطه ، وذلك لأن أصلها عطية فلم يدخل إضرار على المُعرِي من ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قتل} يعني لعن {الخراصون}... وتخرصهم، أنهم قالوا للناس، إنه ساحر، ومجنون، وشاعر، وكاهن، وكذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لُعِن المتكهنون الذين يتخرّصون الكذب والباطل فيتظننونه.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله" قُتِلَ الخَرّاصُونَ"؛ فقال بعضهم: عُنَي به المرتابون...
وقال آخرون في ذلك بالذي قلنا فيه...
عن ابن عباس، قوله: "قُتِلَ الخَرّاصُونَ" قال: الكهنة.
عن قتادة "قُتِلَ الخَرّاصُونَ": أهل الظنون...
قال ابن زيد، في قوله: "قُتِلَ الخَرّاصُونَ" قال: القوم الذين كانوا يتخرّصون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت طائفة: إنما هو ساحر، والذي جاء به سحر. وقالت طائفة: إنما هو شاعر، والذي جاء به شعر. وقالت طائفة: إنما هو كاهن، والذي جاء به كهانة. وقالت طائفة: "أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلاً" يتخرّصون على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قُتِل الخرّاصُون} قال أبو بكر الأصمّ: الخرّاص الذي يكذب على العمد.
ولكن عندنا، الخرّاص: الذي يكذب، ويقطع على الظّن، ومنه يقال للذي يقدِّر الشيء، ويُفرّقه بالظن: خرّاص. فعلى ذلك يحتمل قوله {الخرّاصون}.
ثم قوله: {قُتِل الخرّاصون} يحتمل وجهين:
والثاني: {قُتِل} أي لُعن، هو الطّرد، أي طُردوا عن رحمة الله. وإنما سُمّي اللعن قتلا لأن القتل سبب التّبعيد عن منافع الحياة. وبالقتل خرج عن أن يكون منتفعا بها، واللعن هو الطّرد عن رحمة الله التي بها تقع، وتتحقّق المنافع في الآخرة، والله أعلم.
وقال أهل التأويل: {الخرّاصون}: الكاذبون، وكذا قال أهل الأدب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قُتِلَ الخراصون} دعاء عليهم، كقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] وأصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى: لعن وقبح. والخرّاصون: الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم، كأنه قيل: قتل هؤلاء الخراصون...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قتل الخراصون} أي حصل بأيسر أمر قتل الكذابين ولا محالة من كل قاتل، والمتقولين بالظن المنقطعين للكلام من أصل لا يصلح للخرص وهو القطع، وهم الذين يقولون عن غير سند من كتاب أو سنة أو أثارة من علم، وهو دعاء أو خبر لأنه مجاب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
دعاء بالهلاك على أصحاب ذلك القول المختلف، لأن المقصود بقتلهم أن الله يهلكهم، ولذلك يكثر أن يقال: قاتله الله، ثم أجري مجرى اللعن والتحقير والتعجيب من سوء أحوال المدعو عليه بمثل هذا.
وجملة الدعاء لا تعطف لأنها شديدة الاتصال بما قبلها مما أوجب ذلك الوصف لدخولهم في هذا الدعاء، كما كان تعقيب الجمل التي قبلها بها إيماء إلى أن ما قبلها سبب للدعاء عليهم، وهذا من بديع الإيجاز.
والخرص: الظن الذي لا حجة لصاحبه على ظنه، فهو معرَّض للخطأ في ظنه، وذلك كناية عن الضلال عمداً أو تساهلاً، فالخرّاصون هم أصحاب القول المختلف، فأفاد أن قولهم المختلف ناشئ عن خواطر لا دليل عليها. وقد تقدم في الأنعام (116) {إن يتّبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} فالمراد هنا الخرص بالقول في ذات الله وصفاته.
واعلم أن الخرص في أصول الاعتقاد مذموم لأنها لا تبنى إلا على اليقين لخطر أمرها وهو أصل محل الذم في هذه الآية. وأما الخرص في المعاملات بين الناس فلا يذم هذا الذّمَّ وبعضه مذموم إذا أدى إلى المخاطرة والمقامرة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قُتِلَ الْخَراصُونَ} الذين يبنون أحكامهم وقناعاتهم على الظنّ والحدس، فيسيئون إلى الحقيقة، عندما يبعدونها عن العناصر اليقينية التي تؤكدها وتفتح عليها أكثر من نافذةٍ. والدعاء عليهم بالقتل والهلاك أسلوب كنائيٌّ للدعوة إلى سقوط مثل هذا الأسلوب في تكوين القناعات...