قوله تعالى : { في سدر مخضود } لا شوك فيه ، كأنه خضد شوكه ، أي قطع ونزع منه ، هذا قول ابن عباس وعكرمة . وقال الحسن : لا يعقر الأيدي ، قال ابن كيسان : هو الذي لا أذى فيه ، قال : وليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما يكون في الدنيا من الباقلاء وغيره بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه . قال الضحاك ومجاهد : هو الموقر حملاً . قال سعيد بن جبير : ثمارها أعظم من القلال . قال أبو العالية والضحاك : ونظر المسلمون إلى وج -وهو واد مخصب بالطائف- فأعجبهم سدرها ، وقالوا : يا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله هذه الآية .
وبعد هذا الحديث الزاخر بالخيرات والبركات عن السابقين . . . جاء الحديث عن أصحاب اليمين وعما أعده الله - تعالى - لهم من ثواب فقال - سبحانه - : { وَأَصْحَابُ اليمين . . . } .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { وَأَصْحَابُ اليمين . . . } شروع فى بيان تفاصيل شئونهم ، بعد بيان شئون السابقين .
وأصحاب : مبتدأ وقوله : { مَآ أَصْحَابُ اليمين } جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم ، والتعجب من حالهم ، وهى خبر المبتدأ . . أو معترضة ، والخبر قوله : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . . } .
والسدر : شجر النبق ، واحده سدرة ، ومخضود . أى : منزوع الشوك ، يقال : خضد فلان الشجر ، إذا قطع الشوك الذى به فهو خضيد ومخضود ، أو مخضود بمعنى ملىء بالثمر حتى تثنت أغصانه ، من خضدت الغصن ، إذا ثنيته وأملته إلى جهة أخرى .
أى : وأصحاب اليمين ، المقول فيهم ما أصحاب اليمين على سبل التفخيم ، مستقرون يوم القيامة فى حدائق ملبئة بالشجر الذى خلا من الشوك وامتلأ بالثمار الطيبة ، التى تثنت أغصانها لكثرتها . .
قال القرطبى : وذكر ابن المبارك قال : حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال : " كان أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم . قال : أقبل أعرابى يوما فقال : يا رسول الله ، لقد ذكر الله فى القرآن : شجرة مؤذية ، وماكنت أرى فى الجنة شجرة تؤذى صاحبها ؟
فقال - صلى الله عليه وسلم - : وما هى ؟ قال : السدر ، فإن له شوكا مؤذيا ، فقال : - صلى الله عليه وسلم - : ألم يقل الله - تعالى - { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } . خضد الله - تعالى - شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة " .
قال ابن عباس ، وعِكْرِمَة ، ومجاهد ، وأبو الأحوص ، وقسَامة بن زُهَير ، والسَّفر بن نُسَير ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الله بن كثير ، والسُّدِّيّ ، وأبو حَرْزَة ، وغيرهم : هو الذي لا شوك فيه . وعن ابن عباس : هو المُوَقَر بالثمر . وهو رواية عن عِكْرِمَة ، ومجاهد ، وكذا قال قتادة أيضا : كنا نُحَدِّث أنه المُوقَر الذي لا شوك فيه .
والظاهر أن المراد هذا وهذا فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ، وفي الآخرة على عكس من هذا لا شوك فيه ، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله ، كما قال الحافظ أبو بكر بن سلمان النجّاد .
حدثنا محمد{[28053]} بن محمد هو البغوي ، حدثني حمزة بن عباس{[28054]} ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا صفوان بن عمرو ، عن سليم بن عامر ، قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ؛ قال : أقبل أعرابي يومًا فقال : يا رسول الله ، ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما هي ؟ " . قال : السِّدر ، فإن له شوكًا موذيًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أليس الله يقول : { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ } ، خَضَد الله شوكه ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرًا تَفَتَّق الثمرةُ منها عن اثنين{[28055]} وسبعين لونًا من طعام ، ما فيها لون يشبه الآخر " {[28056]} .
طريق أخرى : قال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن المبارك ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثني ثور بن يزيد ، حدثني حبيب بن عبيد ، عن عُتْبة بن عبد السلمي
قال : كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابي فقال : يا رسول الله ، أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكًا منها ؟ يعني : الطلح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خُصْوَة التيس الملبود ، فيها سبعون لونًا من الطعام ، لا يشبه لون آخر " {[28057]} .
والسدر : شجر من شجر العِضاه ذو ورق عريض مدوَّر وهو صنفان : عُبْرِي بضم العين وسكون الموحدة وياء نسب نسبة إلى العِبر بكسر العين وسكون الموحدة على غير قياس وهو عِبر النهي ، أي ضفته ، له شوك ضعيف في غصونه لا يضير .
والصنف الثاني الضَّالُ ( بضاد ساقطة ولام مخففة ) وهو ذُو شوك . وأجود السدر الذي ينبت على الماء وهو يشبه شجر العُناب ، وورقه كورق العناب وورقه يجعل غسولاً ينظف به ، يخرج مع الماء رغوة كالصابون .
وثمر هذا الصنف هو النبق بفتح النون وكسر الموحدة وقاف يشبه ثمر العناب إلا أنه أصفر مُزّ ( بالزاي ) يفوح الفم ويفوح الثياب ويتفكه به ، وأما الضال وهو السدر البري الذي لا ينبت على الماء فلا يصلح ورقه للغسول وثمره عَفِصٌ لا يسوغ في الحلق ولا ينتفع به ويخبِط الرعاةُ ورقه للراعية ، وأجود ثمر السدر ثمر سدر هَجَر أشد نَبِق حلاوة وأطيبه رائحة .
ولما كان السدر من شجر البادية وكان محبوباً للعرب ولم يكونوا مستطيعين أن يجعلوا منه في جناتهم وحوائطهم لأنه لا يعيش إلا في البادية فلا ينبت في جناتهم خص بالذكر من بين شجر الجنة إغراباً به وبمحاسنه التي كان محروماً منها من لا يسكن البوادي وبوفرة ظله وتهدل أغصانه ونكهة ثمره .
ووصف بالمخضود ، أي المزال شوكه فقد كملت محاسنه بانتفاء ما فيه من أذًى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر ما أعد الله لهم من الخير في الآخرة، فقال: {في سدر مخضود} يعني الذي لا شوك له كسدر أهل الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"سِدْرٍ مَخْضُودٍ" يعني: في ثمر سدر موقر حملاً قد ذهب شوكه...
ما الحكمة في قوله تعالى: {في سدر} وأية نعمة تكون في كونهم في سدر، والسدر من أشجار البوادي، لا بمر ولا بحلو ولا بطيب؟ نقول: فيه حكمة بالغة غفلت عنها الأوائل والأواخر، واقتصروا في الجواب والتقريب أن الجنة تمثل بما كان عند العرب عزيزا محمودا، وهو صواب ولكنه غير فائق، والفائق الرائق الذي هو بتفسير كلام الله لائق، هو أن نقول: إنا قد بينا مرارا أن البليغ يذكر طرفي أمرين، يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال: فلان ملك الشرق والغرب، ويفهم منه أنه ملكهما وملك ما بينهما، ويقال: فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد إلى غير ذلك...
.فقوله تعالى: {في سدر مخضود، وطلح منضود} إشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار، وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها، والورق أحد مقاصد الشجر، ونظيره في الذكر ذكر النخل والرمان عند القصد إلى ذكر الثمار، لأن بينهما غاية الخلاف كما بيناه في موضعه، فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها، وكذلك قلنا في النخيل والأعناب، فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة، وبينهما أشجار، فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار، وهذا جواب فائق وفقنا الله تعالى له.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
ولا يخفى أن السدر ليس ظرفا لأَهل الجنة فالظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... ولما كان السدر من شجر البادية وكان محبوباً للعرب ولم يكونوا مستطيعين أن يجعلوا منه في جناتهم وحوائطهم لأنه لا يعيش إلا في البادية فلا ينبت في جناتهم خص بالذكر من بين شجر الجنة إغراباً به وبمحاسنه التي كان محروماً منها من لا يسكن البوادي وبوفرة ظله وتهدل أغصانه ونكهة ثمره.
ووصف بالمخضود، أي المزال شوكه فقد كملت محاسنه بانتفاء ما فيه من أذًى.