قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم } قال ابن عباس : ما قدموا ، { وما خلفهم } ما خلفوا . وقال الحسن : ( ما بين أيديهم ) : ما عملوا . ( وما خلفهم ) ما هم به عاملون من بعد . وقيل : ( ما بين أيديهم ) ملائكته وكتبه ورسله قبل أن خلقهم ، ( وما خلفهم ) أي : ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم . { وإلى الله ترجع الأمور* }
وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي : يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به ، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء ، كما قال : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا . لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ] {[20421]} وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [ الجن : 26 - 28 ] ، فهو سبحانه رقيب عليهم ، شهيد على ما يقال لهم ، حافظ لهم ، ناصر لجنابهم ؛ { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } الآية [ المائدة : 67 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ } .
يقول تعالى ذكره : الله يعلم ما كان بين أيدي ملائكته ورسله ، من قبل أن يخلقهم وما خلفهم ، يقول : ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم . وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يقول : إلى الله في الاَخرة تصير إليه أمور الدنيا ، وإليه تعود كما كان منه البدء .
جملة مقرِّرة لمضمون جملة { إن الله سميع بصير } [ الحج : 75 ] وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربَّهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية .
و { ما بين أيديهم } مستعار لما يظهرونه ، { وما خلفهم } هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يُخفيه يجعله وراءه .
ويجوز أن يكون { ما بين أيديهم } مستعاراً لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه ، { وما خلفهم } مستعاراً لما مضى وعبَر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه .
وضمير { أيديهم } و { خلفهم } عائدان : إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير { فلا ينازعنك في الأمر } [ الحج : 67 ] ، وإما إلى الملائكة والناس . وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة .
وبني فعل { تُرجع } إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلاّ بالله تعالى ، فهو يُمهل الناس في الدنيا وهو يُرجع الأمور إليه يوم القيامة .
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي ، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين . والتعريف في { الأمور } للاستغراق ، أي كل أمر . وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعاً لما قبله من قوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}: يعلم ما كان قبل خلق الملائكة والأنبياء، ويعلم ما يكون من بعدهم {وإلى الله ترجع الأمور}، في الآخرة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله يعلم ما كان بين أيدي ملائكته ورسله، من قبل أن يخلقهم "وما خلفهم"، يقول: ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم.
"وَإلى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ "يقول: إلى الله في الآخرة تصير إليه أمور الدنيا، وإليه تعود كما كان منه البدء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي يعلم ما كان قبل أن يخلقهم {وما خلفهم} بعدما خلقهم...
وقال الحسن: يعلم بأوائل أمورهم وبأواخرهم...
وجائز أن يكون لا على حقيقة: بين الأيدي، ولا خلف. ولكن على التمثيل، أي: لا يخفى عليه شيء من أفعالهم وأقوالهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
لما أخبر الله تعالى عن نفسه بأنه "سميع بصير "وصف أيضا نفسه بأنه "يعلم ما بين أيديهم" يعني ما بين أيدي الخلائق من القيامة وأحوالها، وما يكون في مستقبل أحوالهم، "وما خلفهم" أي ما يخلفونه من دنياهم...
يعني يوم القيامة ترجع جميع الأمور إلى الله تعالى بعد أن كان ملكهم في دار الدنيا منها شيئا كثيرا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم ذكر أنه تعالى درّاك للمدركات، عالم بأحوال المكلفين ما مضي منها وما غبر، لا تخفى عليه منهم خافية. وإليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات، لا يسأل عما يفعل، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
عبارة عن إحاطة بهم وحقيقتها ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم...
{يعلم ما بين أيديهم} إشارة إلى العلم التام.
وقوله: {وإلى الله ترجع الأمور} إشارة إلى القدرة التامة والتفرد بالإلهية والحكم، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء... فهو سبحانه رقيب عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المتصف بذلك قد يكون وصفه مقصوراً على بعض الأشياء، أخبر أن صفاته محيطة فقال: {يعلم ما بين أيديهم} أي الرسل {وما خلفهم} أي علمه محيط بما هم مطلعون عليه وبما غاب عنهم، فلا يفعلون شيئاً إلا بإذنه، فإنه يسلك من بين أيديهم ومن خلفهم رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وإن ظن الجاهلون غير ذلك، لاحتجابه سبحانه وتعالى في الأسباب، فلا يقع في فكر أصلاً أن المحيط علماً بكل شيء الشامل القدرة لكل شيء يكل رسولاً من رسله إلى نفسه، فيتكلم بشيء لم يرسله به، ولا أنه يمكن شيطاناً أو غيره أن يتكلم على لسانه بشيء، بل كل منهم محفوظ في نفسه {لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3، 4] محفوظ عن تلبيس غيره
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] {وإلى الله} أي الذي لا كفوء له، وحده {ترجع} أي بغاية السهولة بوعد فصل لا بد منه {الأمور} يوم يتجلى لفصل القضاء، فيكون أمره ظاهراً لاخفاء فيه، ولا يصدر شيء من الأشياء إلا على وجه العدل الظاهر لكل أحد أنه منه. ولا يكون لأحد التفات إلى غيره، والذي هو بهذه الصفة له أن يشرع ما يشاء، وينسخ من الشروع ما يشاء، ويحكم بما يريد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: هو يرسل الرسل، يدعون الناس إلى الله، فمنهم المجيب، ومنهم الراد لدعوتهم، ومنهم العامل، ومنهم الناكل، فهذه وظيفة الرسل، وأما الجزاء على تلك الأعمال، فمصيرها إلى الله، فلا تعدم منه فضلا أو عدلا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة مقرِّرة لمضمون جملة {إن الله سميع بصير} [الحج: 75] وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربَّهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية.
و {ما بين أيديهم} مستعار لما يظهرونه، {وما خلفهم} هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يُخفيه يجعله وراءه.
ويجوز أن يكون {ما بين أيديهم} مستعاراً لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه، {وما خلفهم} مستعاراً لما مضى وعبَر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه.
وضمير {أيديهم} و {خلفهم} عائدان: إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير {فلا ينازعنك في الأمر} [الحج: 67]، وإما إلى الملائكة والناس. وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة.
وبني فعل {تُرجع} إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلاّ بالله تعالى، فهو يُمهل الناس في الدنيا وهو يُرجع الأمور إليه يوم القيامة.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين. والتعريف في {الأمور} للاستغراق، أي كل أمر. وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعاً لما قبله من قوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ما بين أيديهم} وهو الحاضر المهيأ، وسمي بين أيديهم، لأنه أمامهم، فشبه علم حاضر بما يكون مهيأ معدا، {وما خلفهم} الخلف يطلق على ما هو خلف الإنسان وهو ضد القُدّام، فهو يطلق على الماضي والقابل، وهو الذي يخلفه من بعده، ولعله من الخلافة، وقد فسر بالقابل الذي لم يقع، ويكون المعنى يعلم حاضرهم، وقابلهم.
فالحق- تبارك وتعالى- لم يخلق خلقه ليتركهم هملا، إنما خلقهم لحكمة، وجعل لهم نهاية يجازى فيها كل بعمله، فمن تعب ونصب في سبيل دعوة الله وتحمل المشاق في مساندة رسل الله فله جزاؤه، ومن جابههم وعاندهم سواء بالأقوال السابة الشاتمة المستهزئة، أو بالأفعال التي تعوق دعوتهم، فله أيضا ما يستحق من العقاب... وهو لا يشمل في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة. فالأوامر والنواهي محصورة في عدة أمور، والباقي مباح، لأن الله تعالى وضع الأوامر والنواهي في الأصول التي تعصم حركة الحياة من الأهواء والنزوات، وترك الباقي لاختيارك تفعله على أي وجه تريد... ولماذا ترك الحق سبحانه هذه الأمور تتضارب فيها الأقوال، وتختلف فيها الآراء، وتحدث فيها نزاعات بين الناس؟. قالوا: هذا مراد الله، لأن الله تعالى خلق الإنسان مسخرا في أشياء، ومختارا في أشياء أخرى، فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الاجتهاد، ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق، وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل، لأن الله لو أراده على لون واحد لقاله، إنما تركه محتملا للآراء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الآية كما ترى تنادي بأن ذكر علمه بما بين أيديهم وما خلفهم للدلالة على أنه تعالى مراقبٌ للطريق الذي يسلكه الوحي فيما بينه وبين الناس، حافظ له أن يختل في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشيءٍ من مكائد الشياطين وتسويلاتهم، كل ذلك لأن حملة الوحي من الرسل بعينه وبمشهد منه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وهو بالمرصاد...
وتلك هي الصورة التي يريد الله لعباده أن يتمثلوها في وعيهم العقيدي لموقع ذات الإله العظيم، ليتفرّد في عقولهم وقلوبهم، كما هو متفردٌ في ذاته، عندما يقارنون بوعي بين سرّ العظمة في ذاته وسرّ الحقارة في خلقه...