ثم أضاف - سبحانه - إلى تعظيمه لشأن الجنة تعظيماً آخر فقال : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } .
فاسم الإشارة { تِلْكَ } يعود إلى ما تقدم من قوله : { فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة . . } وقوله { جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب . . . } .
أى : تلك هى الجنة العظيمة الشأن ، العالية القدر ، التى نجعلها ميراثاً للمؤمنين الصادقين المتقين من عبادنا ، كما قال - تعالى - : { أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وكما قال - سبحانه - : { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } قال صاحب الكشاف : قوله { نُورِثُ } . . . أى : نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورث ، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهى الجنة ، فإذا أدخلهم - سبحانه - الجنة ، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى . . " .
[ وقوله تعالى ]{[18994]} { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } أي : هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين ، وهم المطيعون لله - عز وجل - في السراء والضراء ، والكاظمون{[18995]} الغيظ والعافون{[18996]} عن الناس ، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلى أن قال : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 1 - 11 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الْجَنّةُ الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : هذه الجنة التي وصفت لكم أيها الناس صفتها ، هي الجنة التي نورثها ، يقول : نورث مساكن أهل النار فيها مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيّا يقول : من كان ذا اتقاء عذاب الله بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه .
{ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه ، والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ، ولا تبطل برد ولا إسقاط . وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا زيادة في كرامتهم ، وعن يعقوب " نورث " بالتشديد .
جملة { تلك الجنّة } مستأنفة ابتدائية . واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويهاً بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويهاً بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى : { أعدت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] .
و { نورث } نجعل وارثاً ، أي نعطي الإرث . وحقيقة الإرث : انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنّه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيّد بحالة . واستعير هنا للعطيّة المدّخرة لمعطاها ، تشبيهاً بمال المَوروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر .
وقرأ الجمهور { نورث } بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء ، وقرأه رويس عن يعقوب : نوَرّث بفتح الواو تشديد الراء من وَرّثه المضاعف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذه الجنة التي وصفت لكم أيها الناس صفتها، هي الجنة التي نورثها، يقول: نورث مساكن أهل النار فيها "مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيّا "يقول: من كان ذا اتقاء عذاب الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا "معناه إنما نُمَلِّك تلك الجنة من كان تقيا في دار الدنيا بترك المعاصي، وفعل الطاعات. وإنما قال "نورث "مع أنه ليس بتمليك نقل من غيرهم إليهم، لأنه مشبه بالميراث من جهة أنه تمليك بحال استؤنفت عن حال قد انقضت من أمر الدنيا، كما ينقضي حال الميت من أمر الدنيا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فالجنة للأتقياء من هذه الأمة مُعَدّةٌ له، والرحمةُ لعصاةِ المسلمين مُدَّخرةٌ لهم، الجنةُ لُطْفٌ من الله تعالى، والرحمةُ وَصْفٌ لله تعالى. وقوله: {مِنْ عِبَادِنَا}: فَعَبْدُه على الخصوصية مَنْ كان اليومَ في قيد أمره. وقوله: {مَن كَانَ تَقِيّاً}: قوم يتقون المعاصي والمخالفات، وقوم يتقون الشهواتِ، وآخرون يتقون الغفلاتِ،...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(تلك الجنة التي نورث من عبادنا) فيه قولان: أحدهما: يعطى وينول، والقول الآخر: أنه ما من أحد من الكفار إلا وله منزل في الجنة وأهل لو أسلم، فإذا لم يسلم ورثه المؤمنون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{نُورِثُ} وقرئ «نورّث» استعارة، أي: نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورّث ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورّث الوارث المال من المتوفي. وقيل: أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع، ولا تبطل برد ولا إسقاط...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل، أشار إلى علو رتبتها وما هو سببها بقوله: {تلك الجنة} بأداة البعد لعلو قدرها، وعظم أمرها {التي نورث} أي نعطي عطاء الإرث الذي لا نكد فيه من حين التأهل له بالموت ولا كد ولا استرجاع {من عبادنا} الذين أخلصناهم لنا، فخلصوا عن الشرك نية وعملاً {من كان} أي جبلة وطبعاً {تقياً} أي مبالغاً في التقوى، فهو في غاية الخوف منا لاستحضاره أنه عبد؛ قال الرازي في اللوامع: وما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار، والعبد يكون ذليلاً بأوصافه، عزيزاً بأوصاف الحق تعالى -انتهى. وذلك إشارة إلى سبب إيراثها التقوى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
. فمن شاء الوراثة فالطريق معروف: التوبة والإيمان والعمل الصالح. أما وراثة النسب فلا تجدي. فقد ورث قوم نسب أولئك الأتقياء من النبيين وممن هدى الله واجتبى؛ ولكنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فلم تنفعهم وراثة النسب (فسوف يلقون غيا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {تلك الجنّة} مستأنفة ابتدائية. واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويهاً بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويهاً بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]. و {نورث} نجعل وارثاً، أي نعطي الإرث. وحقيقة الإرث: انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنّه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيّد بحالة. واستعير هنا للعطيّة المدّخرة لمعطاها، تشبيهاً بمال المَوروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن تلك الجنة الطيبة التي تحيا فيها الروح، ويحيا فيها الجسم من غير إسراف ولا تفريط تكون للمتقين، ولذا قال تعالى: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا}. الإشارة هنا للبعيد إعلاء لشأنها وتشريفا وتكريما لها {نورث}، أي يجعلها سبحانه وتعالى ميراثا لمن كان تقيا، وسميت ميراثا أورث الله تعالى به، لأنه خلف للعمل الصالح، ولأنه ترك الأهواء والشهوات فأخذ بديلا لها تلك الجنة وهي أغلى وأدوم، وسمى سبحانه وتعالى ذلك توريثا، لأنها خلف، كما يملك الوارث بالخلافة بيد أن ذلك ميراث عن عمل صالح بنعيم دائم فهو دائم بدوام المال الموروث، وقوله تعالى: {نورث من عبادنا من كان تقيا} (من) مفعول، و (من) للتبعيض وقوله تعالى: {كان تقيا} تفيد الملازمة للتقوى لا يتحول عنها، لأن {كان} تدل على الدوام والاستمرار.
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق عرف منهم من سيؤمن باختياره، ومن سيكفر باختياره، علم من سيطيع ومن سيعصى، فلم يرغم سبحانه عباده على شيء، إنما علم ما سيكون منهم بطلاقة علمه تعالى، إلا أنه تعالى أعد الجنة لتسع جميع الخلق إن أطاعوا، وأعد النار لتسع جميع الخلق إن عصوا، فلن يكون هناك إذن زحام ولا أزمة إسكان، إن دخل الناس جميعاً الجنة، أو دخلوا النار. إذن: حينما يدخل أهل النار النار، أين تذهب أماكنهم التي أعدت لهم في الجنة؟ تذهب إلى أهل الجنة، فيرثونها بعد أن حرم منها هؤلاء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد الوصف الإِجمالي للجنّة ونعمها المادية والمعنوية، تعرّف الآية أهل الجنّة في جملة قصيرة، فتقول: (تلك الجنّة التي نورث من عبادنا من كان تقياً) وعلى هذا فإن مفتاح باب الجنة مع كل تلك النعم التي مرت ليس إِلاّ «التقوى». وبالرغم من أنّ التعبير ب «عبادنا» فيه إِشارة إِجمالية إلى الإِيمان والتقوى، غير أنّ المحل هنا لا يكتفى فيه بالإِشارة الإِجمالية، بل لابدّ من بيان هذه الحقيقة بصراحة، بأن الجنة محل المتقين فقط. الوراثة التي وردت بذلك المعنى في الحديث ليست على أساس العلاقة النسبية، بل على أساس التقوى الدينية والعملية...