قوله : { فالحق } مبتدأ محذوف الخبر أى : فالحق قسمى لأملأن . . وقوله : { والحق أَقُولُ } لفظ الحق منصوب هنا على أنه مفعول لأقول ، قدم عليه لإِفادة الحصر .
والجملة من الفاعل والمفعول معترضة بين القسم والقسم عليه لتقرير مضمون الجملة القسمية . أى : قال الله - تعالى - فى رده على إبليس : فالحق قسمى ويمينى - ولا أقول إلا الحق - لأملأن جهنم من جنسك يا إبليس ، وممن تبعك من الناس جميعا ، لأن هذا جزاء من عصانى .
( قال : فالحق . والحق أقول . لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) . .
والله يقول الحق دائماً . والقرآن يقرر هذا ويؤكد الإشارة إليه في هذه السورة في شتى صوره ومناسباته . فالخصم الذين تسوروا المحراب على داود يقولون له : ( فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ) . . والله ينادي عبده داود : ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) . . ثم يعقب على هذا بالإشارة إلى الحق الكامن في خلق السماوات والأرض : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً . ذلك ظن الذين كفروا ) . . ثم يجيء ذكر الحق على لسان القوي العزيز : ( قال فالحق والحق أقول ) . . فهو الحق الذي تتعدد مواضعه وصوره ، وتتحد طبيعته وكنهه . ومنه هذا الوعد الصادق :
( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) . .
وهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم ، يخوضونها على علم . والعاقبة مكشوفة لهم في وعد الله الصادق الواضح المبين . وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم بعد هذا البيان . وقد شاءت رحمة الله ألا يدعهم جاهلين ولا غافلين . فأرسل إليهم المنذرين .
وقوله : { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع " الحق " الأولى وفسره مجاهد بأن معناه : أنا الحق ، والحق أقول وفي رواية عنه : الحق مني ، وأقول الحق . وقرأ آخرون بنصبهما . قال السدي : هو قسم أقسم الله به . قلت : وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] وكقوله تعالى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا } [ الإسراء : 63 ] .
وجوابه { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وما بينهما اعتراض وهو على الأول جواب محذوف والجملة تفسير ل { الحق } المقول ، وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول على الابتداء أي الحق يميني أو قسمي ، أو الخبر أي أنا { الحق } ، وقرئا مرفوعين على حذف الضمير من أقول كقوله : كله لم أصنع . ومجرورين على إضمار حرف القسم في الأول وحكاية لفظ المقسم به في الثاني للتأكيد ، وهو سائغ فيه إذا شارك الأول وبرفع الأول وجره ونصب الثاني وتخريجه على ما ذكرناه ، والضمير في منهم للناس إذ الكلام فيهم والمراد بمنك من جنسك ليتناول الشياطين ، وقيل للثقلين وأجمعين تأكيد له أو للضميرين .
وجملة { لأملأنَّ جهنَّمَ منكَ } الخ مبيّنة لجملة { فالحق } وهي مؤكدة بلام القسم والنون .
وتقدم المفعول في { والحق أقول } للاختصاص ، أي ولا أقول إلا الحق .
و ( مِن ) في قوله : { منك وممن تبعك } بيانية وهي التي تدخل على التمييز وينتصب التمييز بتقدير معناها . وتدخل على تمييز ( كَم ) في نحو { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } [ ص : 3 ] ، وهي هنا بيان لما دل عليه { لأملأن } من مقدار مبهم فبيّن بآية { منك وممن تبعك } ولما كان شأن مدخول « من » البيانية أن يكون نكرة تعين اعتبار كاف الخطاب في معنى اسم الجنس ، أي من جنسك الشياطين إذ لا تكون ذات إبليس مِلأً لجهنم . وإذ قد عطف عليه { وممن تبعك منهم أي من تبعك من الذين أغويتهم من بني آدم ، فلا جائز أن يبْقى من عدَا هذين من الشياطين والجِنة غير مِلْءٍ لجهنم .
وأجْمعينَ } توكيد لضمير { مِنْكَ } و« لمَن » في قوله : { ومِمَّن تَبِعَكَ .
واعلم أن حكاية هذه المقاولة بين كلام الله وبين الشيطان حكاية لما جرى في خَلد الشيطان من المدارك المترتبة المتولدة في قرارة نفسه ، وما جرى في إرادة الله من المسببات المترتبة على أسبابها من خواطر الشيطان لأن العالم الذي جرت فيه هذه الأسباب ومسبباتها عالم حقيقة لا يجري فيه إلا الصدق ولا مطمع فيه لترويج المواربة ولا الحيلة ولذلك لا تعد خواطر الشيطان المذكورة فيه جرأة على جلال الله تعالى ولا تعدّ مجازاة الله تعالى الشيطانَ عليه تنازلاً من الله لمحاورة عبد بغيض لله تعالى .
وقد ذكرنا في تفسير سورة الحجر ما دلت عليه الأقوال التي جرت من الشيطان بين يدي الله تعالى والأقوالُ التي ألقاها الله عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.