مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ} (85)

واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال الله تعالى : { فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة { فالحق } بالرفع { والحق } بالنصب ، والباقون بالنصب فيهما . أما الرفع فتقديره فالحق قسمي . وأما النصب فعلى القسم ، أي فبالحق ، كقولك والله لأفعلن . وأما قوله : { والحق أقول } انتصب قوله : { والحق } بقوله : { أقول } .

المسألة الثانية : قوله : { منك } أي من جنسك ، وهم الشياطين { وممن تبعك منهم } من ذرية آدم ، فإن قيل قوله : { أجمعين } تأكيد لماذا ؟ قلنا : يحتمل أن يؤكد به الضمير في { منهم } ، أو الكاف في { منك } مع من تبعك ، ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحدا .

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه الأول : أنه تعالى قال في حق إبليس : { فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين } فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن ، فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذبا وهو محال ، فكان صدور الإيمان منه محالا مع أنه أمر به والثاني : أنه قال : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } فالله تعالى علم منه أنه يغويهم ، وسمع منه هذه الدعوى ، وكان قادرا على منعه عن ذلك ، والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضيا به ، فإن قالوا : لعل ذلك المنع مفسد ، قلنا : هذا قول فاسد ، لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال ، ويخلص بني آدم عن الضلال ، وهذا عين المصلحة الثالث : أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة ، فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى الرابع : أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين ، وأن يميت إبليس والشياطين ، وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد الخامس : أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان ، يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون البتة ، وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون البتة ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، والله أعلم .