الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ} (85)

وقوله : { لأَمْلأَنَّ } : جوابُ القسم . قال أبو البقاء : " إلاَّ أنَّ سيبويهِ يَدْفَعُه لأنه لا يُجَوِّزُ حَذْف حرفِ القسمِ إلاَّ مع اسم الله ، ويكون قولُه : " والحقَّ أقولُ " معترضاً بين القسم وجوابِه " . قال الزمخشري : " كأنه قيل : ولا أقولُ إلاَّ الحقَّ " يعني أن تقديمَه المفعولَ أفاد الحصرَ . والمرادُ بالحق : إمَّا الباري تعالى كقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [ النور : 25 ] وإمَّا نقيضُ الباطل . والثاني : أنه منصوبٌ على الإِغراءِ أي : الزموا الحقَّ . والثالث : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ قولِه : " لأَمْلأَنَّ " . قال الفراء :/ " هو على معنى قولك : حقاً لا شكَّ ، ووجودُ الألفِ واللام وطَرْحُهما سواءٌ أي : لأملأن جهنَّم حقاً " انتهى . وهذا لا يَتَمَشَّى على قولِ البصريين ؛ فإنَّ شَرْطَ نَصْبِ المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة أَنْ يكونَ بعد جملةٍ ابتدائية خبراها معرفتان جامدان جموداً مَحْضاً .

وجَوَّز ابنُ العِلْج أَنْ يكونَ الخبرُ نكرةً . وأيضاً فإنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لا يجوزُ تقديمُه على الجملةِ المؤكِّدِ هو لمضمونِها . وهذا قد تقدَّم . وأمَّا الثاني فمنصوبٌ ب " أقولُ " بعدَه . والجملةُ معترضةٌ كما تقدَّم . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ منصوباً على التكرير ، بمعنى أنَّ الأول والثاني كليهما منصوبان ب أقولُ . وسيأتي إيضاحُ ذلك في عبارتِه .

وقرأ عاصم وحمزةُ برفعِ الأولِ ونصبِ الثاني . فَرَفْعُ الأولِ من أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه : فالحقُّ مني ، أو فالحقُّ أنا . الثاني : أنه مبتدأ ، خبرُه " لأملأنَّ " قاله ابن عطية . قال : " لأنَّ المعنى : أنْ أَمْلأَ " . قال الشيخ : " وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنَّ لأملأنَّ جوابُ قسمٍ . ويجب أَنْ يكونَ جملةً فلا تتقدَّرُ بمفردٍ . وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرفٍ مصدري والفعل حتى يَنْحَلَّ إليهما ، ولكنه لَمَّا صَحَّ له إسنادُ ما قَدَّرَ إلى المبتدأ حَكَمَ أنه خبرٌ عنه " قلت : وتأويلُ ابنِ عطيةَ صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ .

الثالث : أنه مبتدأٌ ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه : فالحقُّ قَسَمي ، و " لأملأنَّ " جوابُ القسم كقوله : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ولكنَّ حَذْفَ الخبرِ هنا ليسَ بواجبٍ ، لأنه ليس نصاً في اليمين بخلافِ لَعَمْرك . ومثلُه قولُ امرئ القيس :

فقلت يمينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعداً *** ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي

وأمَّا نصبُ الثاني فبالفعل بعدَه . وقرأ ابنُ عباس ومجاهد والأعمش برفعهما . فرفْعُ الأولِ على ما تقدَّم ، ورفعُ الثاني بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ بعده ، والعائد محذوفٌ كقولهِ تعالى في قراءةِ ابنِ عامر : { وَكُلٌ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وقول أبي النجم :

قد أصبَحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي *** عليَّ ذَنباً كلُّه لم أَصْنَعِ

ويجوز أَنْ يرتفعَ على التكريرِ عند الزمخشري وسيأتي . وقرأ الحسنُ وعيسى بجرِّهما .

وتخريجُها : على أنَّ الأولَ مجرورٌ بواوِ القسم مقدرةً أي : فوالحقِ والحقِ عطفٌ عليه كقولِك : واللَّهِ واللَّهِ لأقومَنَّ ، و " أقول " اعتراضٌ بين القسم وجوابِه . ويجوز أَنْ يكونَ مجروراً على الحكايةِ . وهو منصوبُ المحل ب " أقولُ " بعده . قال الزمخشري : " ومجرورَيْن - أي وقُرئا مجرورَيْن - على أنَّ الأولَ مُقْسَمٌ به قد أُضْمِرَ حرفُ قَسَمِه كقولك : " اللَّهِ لأفعَلَنَّ " والحقَّ أقول أي : ولا أقول إلاَّ الحقَّ على حكايةِ لفظ المقسمِ به ، ومعناه التوكيدُ والتشديدُ . وهذا الوجهُ جائزٌ في المرفوعِ والمنصوبِ أيضاً ، وهو وجهٌ حسنٌ دقيق " انتهى . يعني أنه أعملَ القولَ في قوله : " والحق " على سبيلِ الحكايةِ فيكونُ منصوباً ب " أقول " سواءً نُصِب أو رُفِعَ أو جُرَّ ، كأنه قيل : وأقولُ هذا اللفظَ المتقدمَ مُقَيَّداً بما لُفِظ به أولاً .

قوله : " أجمعين " فيه وجهان ، أظهرهما : أنه توكيدٌ للضمير في " منك " و " لمَنْ " عطفٌ في قوله : " ومِمَّنْ تَبِعك " وجيْء بأجمعين دونَ " كل " ، وقد تقدَّم أن الأكثرَ خلافُهُ . وجَوزَّ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ تأكيداً للضمير في " منهم " خاصةٌ فقدَّر " لأَمْلأَنَّ جهنم من الشياطين وممَّنْ تبعهم مِنْ جميع الناس لا تفاوتَ في ذلك بين ناسٍ وناسٍ " .