وقوله - سبحانه - : { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } استئناف لبيان ما يقوله بعضهم لبعض على سبيل الهمس وخفض الصوت .
أى : إن هؤلاء المجرمين يتهامسون فيما بينهم فى هذا اليوم العصيب ، قائلين ما لبثم فى قبوركم إلا عشرا من الليالى أو الأيام .
ومقصدهم من هذا القول : استقصار المدة ، وسرعة انقضائها ، والندم على ما كانوا يزعمونه من أنه لا بعث ولا حساب ، بعد أن تبين لهم أن البعث حق ، وأن الحساب حق ، وأن الأمر على عكس ما كانوا يتوهمون .
وقوله : " يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إنْ لَبِثْتُمْ إلاّ عَشْرا " يقول تعالى ذكره : يتهامسون بينهم ، ويسرّ بعضهم إلى بعض : إن لبثتم في الدنيا ، يعني أنهم يقول بعضهم لبعض : ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " يَتَخافَتُون بَيْنَهُمْ " يقول : يتسَارّون بينهم .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ : أي يتسارّون بينهم إنْ لَبِثْتُمْ إلاّ عَشْرا " .
التخافت : الكلام الخفي من خوف ونحوه . وتخافتهم لأجل ما يملأ صدورهم من هول ذلك اليوم كقوله تعالى : { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً } [ طه : 108 ] .
وجملة { إن لَّبِثْتُم إلاَّ عَشْراً } مبيّنة لجملة { يتخافتون } ، وهم قد علموا أنهم كانوا أمواتاً ورفاتاً فأحياهم الله فاستيقنوا ضلالهم إذ كانوا ينكرون الحشر .
ولعلهم أرادوا الاعتذار لخطئهم في إنكار الإحياء بعد انقراض أجزاء البدن مبالغة في المكابرة ، فزعموا أنهم ما لبثوا في القبور إلاّ عشرَ ليال فلم يصيروا رفاتاً ، وذلك لما بقي في نفوسهم من استحالة الإحياء بعد تفرق الأوصال ، فزعموا أن إحياءهم ما كان إلا بردّ الأرواح إلى الأجساد . فالمراد باللبث : المكث في القبور ، كقوله تعالى : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } في سورة المؤمنين ( 112 ، 113 ) ، وقوله { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } في سورة الروم ( 55 ) .
و ( إذ ) ظرف ، أي يتخافتون في وقت يقول فيه أمثلهم طريقةً . والأمثل : الأرجح الأفضل . والمَثالة : الفضل ، أي صاحب الطريقة المثلى لأن النسبة في الحقيقة للتمييز .
والطريقة : الحالة والسنّة والرأي ، والمراد هنا الرأي ، وتقدم في قوله { ويذهبا بطريقتكم المثلى } [ طه : 63 ] في هذه السورة ، ولم يأت المفسرون في معنى وصف القائل { إن لبثتم إلا يوماً } بأنه أمثل طريقة بوجه تطمئن له النفس .
والذي أراه : أنه يحتمل الحقيقة والمجاز ؛ فإن سلكنا به مسلك الحمل على الحقيقة كان المعنى أنه أقربهم إلى اختلاق الاعتذار عن خطئهم في إنكارهم البعث بأنهم ظنوا البعث واقعاً بعد طول المكث في الأرض طولاً تتلاشى فيه أجزاء الأجسام ، فلما وجدوا أجسادهم كاملة مثل ما كانوا في الدنيا قال بعضهم { إن لبثتم إلا عشراً } ، فكان ذلك القول عذراً لأن عشر الليالي تتغيّر في مثلها الأجسام . فكان الذي قال { إن لبثتم إلا يوماً } أقرب إلى رواج الاعتذار . فالمراد : أنه الأمثل من بينهم في المعاذير ، وليس المراد أنه مصيب .
وإن سلكنا به مسلك المجاز فهو تهكم بالقائل في سوء تقديره من لبثهم في القبور ، فلما كان كلا التقديرين متوغّلاً في الغلظ مؤذناً بجهل المقدّرين واستِبهام الأمر عليهم دالاً على الجهل بعظيم قدرة الله تعالى الذي قَضّى الأزمانَ الطويلة والأممَ العظيمة وأعادهم بعد القرون الغابرة ، فكان الذي قدر زمن المكث في القبور بأقلِّ قَدْر أوغل في الغلط فعُبر عنه ب { أمْثَلُهُم طَرِيقَةً } تهكماً به وبهم معاً إذ استوى الجميع في الخطأ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يتخافتون} يعني: يتساءلون {بينهم} يقول بعضهم لبعض: {إن} يعني: ما {لبثتم إلا عشرا}، يعني: عشر ليال.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يتهامسون بينهم، ويسرّ بعضهم إلى بعض: إن لبثتم في الدنيا، يعني أنهم يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: يتسارون بينهم، ويتكلمون في ما بينهم كلاما خفيا. {إن لبثتم إلا عشرا} مثل هذا الكلام إنما يقولونه تلهفا وتحزنا على ما كان منهم في وقت قليل لاستقلالهم واستصغارهم الدنيا؛ يقولون: كيف كان منا كل هذا العمل في ذلك الوقت القليل؟ ثم اختلفوا في ذلك اللبث الذي قالوا. قال بعضهم: [ذلك] في الدنيا: استقلوا مقام الدنيا لما عاينوا الآخرة. وقال بعضهم: ذلك في القبور...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(إن لبثتم إلا عشرا) يعني ما أقمتم في قبوركم إلا عشرا. وإنما يقولون ذلك القول لأنهم لشدة ما يرونه من هول القيامة ينسون ما لبثوا في الدنيا، فيقولون هذا القول. وقيل: معناه وتأويله أنه يذهب عنهم طول لبثهم في قبورهم لما يرون من أحوالهم التي رجعت إليهم، كأنهم كانوا نياما، فانتبهوا. وقال الحسن: إن لبثتم إلا عشرا يقللون لبثهم في الدنيا لطول ما هم لابثون في النار.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تخافتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا: إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأنّ أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت، والذاهب وإن طالت مدّته قصير بالانتهاء... وإما لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التخافت -وهو المسارّة بالكلام- قد يكون بين اثنين من قبيلتين، فيكون كل منهما خائفاً من قومه أقل عاراً مما لو كانا من قبيلة واحدة، لأنه يدل على أن ذلك الخوف طبع لازم، قال دالاً على لزومه وعمومه: {بينهم} أي يتكلمون خافضي أصواتهم من الهيبة والجزع.
ولما كانت الزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لعدم ألفهم لها، والمخافتة أبغض الأصوات إليهم لأنها تدل عندهم على سفول الهمة والجبن وكانوا من الزرقة أشد نفرة لأن المخافتة قد يتعلق بها غرض. رتبهما سبحانه كذلك، ثم بين ما يتخافتون به فقال: {إن} أي يقول بعضهم لبعض: ما {لبثتم} أي في الدنيا استقصاراً لمدة إقامتهم في غيب ما بدا لهم من المخاوف، أو غلطاً ودهشة {إلا عشراً} أي عقداً واحداً، لم يزد على الآحاد إلا بواحد، وهو لو أنه سنون سن من لم يبلغ الحلم، فكيف إذا كان شهوراً أو أياماً فلم يعرفوا لذة العيش بأيّ تقدير كان.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{إن لبثتم إلا عشرا} أي يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا عشرة أيام، ذاك أنهم لما عاينوا تلك الأهوال ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدنيا، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا ما عشنا إلا تلك الأيام القلائل. والإنسان حين الشدائد والأهوال تغيب عنه أظهر الأشياء، وأكثرها خطورا بباله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يتخافتون بينهم بالحديث، لا يرفعون به صوتا من الرعب والهول، ومن الرهبة المخيمة على ساحة الحشر. وفيم يتخافتون؟ إنهم يحدسون عما قضوا على الأرض من أيام. وقد تضاءلت الحياة الدنيا في حسهم، وقصرت أيامها في مشاعرهم، فليست في حسهم سوى أيام قلائل: (إن لبثتم إلا عشرا)
أي: يسرون الكلام، ويهمس بعضهم إلى بعض، لا يجرؤ أحد منهم أن يجهر بصوته من هول ما يرى، والخائف حينما يلاقي من عدوه ما لا قبل له به يخفي صوته حتى لا ينبهه إلى مكانه، أو: لأن الأمر مهول لدرجة الهلع الذي لا يجد معه طاقة للكلام، فليس في وسعه أكثر من الهمس. فما وجه التخافت؟ وبم يتخافتون؟ يسر بعضهم إلى بعض {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}: يقول بعضهم لبعض: ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام، ثم يوضح القرآن بعد ذلك أن العشرة هذه كلامهم السطحي، بدليل قوله في الآية بعدها: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)} (طه). فانتهت العشرة إلى يوم واحد، ثم ينتهي اليوم إلى ساعة في قوله تعالى حكاية عنهم: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.. (55)} (الروم): فكل ما ينتهي فهو قصير. إذن: أقوال متباينة تميل إلى التقليل؛ كأن الدنيا على سعة عمرها ما هي إلا ساعة: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار.. (35)} (الأحقاف). وما هذا التقليل لمدة لبثهم في الدنيا إلا لإفلاسهم وقلة الخير الذي قدموه فيها، لقد غفلوا فيها، فخرجوا منها بلا ثمرة؛ لذلك يلتمسون لأنفسهم عذرا في انخفاض الظرف الزمني الذي يسع الأحداث، كأنه لم يكن لديهم وقت لعمل الخير!!