اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَتَخَٰفَتُونَ بَيۡنَهُمۡ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا عَشۡرٗا} (103)

قوله : { يَتَخَافَتُونَ } يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وأن يكونَ حالاً ثانية من " المُجْرِمينَ " {[26745]} ، وأن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في " زرقاً " {[26746]} فتكون حالاً متداخلة{[26747]} ، إذ هي حال ( من حال ){[26748]} . ومعنى " يَتَخَافَتُونَ " أي : يتشاوَرُونَ فيما بينهم ، ويتكلمون خفية{[26749]} ، يقال : خَفَتَ يَخْفِتُ ، وخَافَتَ مُخَافَتَة{[26750]} ، والتَّخافُت السرار نظيره قوله تعالى{[26751]} : { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً }{[26752]} ، وإنما يتخافتون ، لأنه امتلأت صدورُهُمْ من الرعب والهول ، أو لأنهم بسبب{[26753]} الخوفِ صارُوا في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر{[26754]} . وقوله : { إن لَبِثْتُمْ }{[26755]} هو مفعول المارة{[26756]} ، وقوله : { إلاَّ عَشْراً } يجوز أن يراد الليالي ، وحذف التاء من العدد قياسي{[26757]} . وأن يراد الأيام ، فيُسْأَل لِمَ حذفت التاء ؟ فقيل{[26758]} : إنه إذا لم يذكر المميز في عدد المذكر جازت التاء وعدمها{[26759]} ، سمع من كلامهم : صُمْنَا من الشهر خَمْساً{[26760]} ، والصَّوْمُ إنما هو الأيام{[26761]} ، دون اللَّيالي . وفي الحديث " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وأتْبَعَهُ بستّ مِنْ شَوَّال " {[26762]} ، وحسن الحذف هنا لكونه رأس آية وفاصلة{[26763]} .

فصل{[26764]}

قال الحسن وقتادةَ والضحَّاك : أرادوا به{[26765]} اللبث في الدنيا ، أي فما مكثتم في الدُّنْيَا إلا عشر ليال ، واحتجُّوا بقوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }{[26766]} {[26767]}

فإن قيل{[26768]} : إما ( أن يقال ){[26769]} : إنهم قد{[26770]} نسَوا قدرَ لبثهم في الدنيا أو{[26771]} ما نَسوا ذلك والأول غير جائز ، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلدة ثم يَنْسَى .

والثاني غير جائز ، لأنه كذب ، وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيَّما وهذا الكذب لا فائدة فيه .

فالجواب من وجوه :

الأول : لعلَّهم إذا حُشِرُوا في أول الأمر وعاينوا تِلْكَ الأهوال وشدة وقعها ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدُّنيا ، ولم{[26772]} يذكروا إلا القليل فقالوا : ليتَنا ما عِشْنَا إلا{[26773]} تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نَقَع في هذه الأهوال ، والإنسان قد يذهل عند الهول الشديد ، وتمام تقريره مذكورة في سورة الأنعام في قوله تعالى{[26774]} : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }{[26775]} .

وثانيها{[26776]} : أنهم عالِمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنَّهُم لمّا قَابَلُوا أَعْمَارَهُمْ في الدنيا بأعمارِ الآخرة وجدُوهَا في نهاية القلة ، فقال بعضهم : ما لبثْنَا في الدنيا إلا عشرة أيام ، وقال أعْقَلُهُمْ : ما لبثنا إلا يوماً واحداً ، أي : قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم ، وإنما خصَّ العشرة والواحد{[26777]} بالذكر ، لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد .

وثالثها{[26778]} : أنهم لما عايَنُوا الشدائد تذكَّروا أيام النعمة{[26779]} والسرور ، وتأسفوا عليها ، وصفوها بالقصر ، لأن أيام السرور قصار .

ورابعها{[26780]} : أن أيامَ الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة ، والذاهب وإن طالت مدته قليل{[26781]} بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته ، فكيف والأمر بالعكس . ولهذه{[26782]} الوجوه رجَّح الله تعالى قول مَنْ بالغ في التقليل{[26783]} فقال : { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } . وقيل : المراد منه اللبث في القبر ، ويؤيده قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ{[26784]} وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان{[26785]} لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث }{[26786]} .

( فأما من جوَّز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية ){[26787]} ، أما من لم يجوزه قال : إن{[26788]} الله تعالى لما أحْيَاهم في الفترة وعذَّبهم ، ثم أماتهم ثم بعثهم{[26789]} يوم القيامة لم يعرفوا مقدار لبثهم في القبر كم كان ؟ فخطر ببال بعضهم أنه في التقدير عشرة أيام .

وقال آخرون : إنه يوم واحد ، فلمَّا وَقَعُوا في العذاب مرة أخرى استثقلوا زمانَ الموت الذي هو زمان الخلاص لِمَا نالهم من هول العذاب{[26790]} .

وقيل : المراد باللبث بين النفختين ، وهو أربعون سنة ، لأن العذاب يرفع عنهم بين النفختين ، استقصروا مدة لبثهم لهول{[26791]} ما عاينوا{[26792]} . والأكثرون على أنَّ قوله{[26793]} : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } أي عشرة أيام ، فيكون قولُ مَنْ قال { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } أقل ، وقال مقاتل : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } أي ساعات ، لقوله ( تعالى : { كَأَنَّهُمْ ){[26794]} يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }{[26795]} وعلى هذا يكون اليوم أكثر{[26796]} .


[26745]:انظر التبيان 2/904.
[26746]:انظر التبيان 2/904.
[26747]:الحال المتداخلة: هي التي يكون صاحبها ضميرا في الحال الأولى.
[26748]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26749]:في اللسان (خفت): وتخافت القوم إذا تشاوروا سرا، وفي التنزيل العزيز: {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا}.
[26750]:في ب: يقال: خفت وخافة مخافة ومخفت. وهو تحريف.
[26751]:تعالى: سقط من ب.
[26752]:[طه: 108].
[26753]:في ب: السبب.
[26754]:انظر الرازي 22/115.
[26755]:في الأصل: "إن لبثتم إلا".
[26756]:في ب: المسارعة. وهو تحريف.
[26757]:لأن العدد من ثلاثة إلى عشرة يذكر مع المؤنث، ويؤنث مع المذكر.
[26758]:في ب: مذكر.
[26759]:يؤنث العدد إذا كان المعدود مذكرا نحو: أربعة أيام وعشرة رجال. وإن كان المعدود محذوفا يجوز على الأفصح تأنيث العدد نحو: صمت خمسة، أي خمسة أيام. وترك التأنيث. وعلى قوله تعالى: {أربعة أشهر وعشرا} [البقرة: 234] وحديث: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال" الهمع 2/148.
[26760]:حكاه الكسائي عن أبي الجراح. البحر المحيط 6/279، الهمع 2/148، وهذا شاهد على جواز حذف التاء من العدد إذا كان المعدود مذكرا محذوفا.
[26761]:في ب: وإنما الصوم للأيام.
[26762]:أخرجه مسلم (صيام) 2/822، والترمذي (صوم) 2/129 – 130، وابن ماجه (صيام) 1/547، وأحمد 5/417، 419.
[26763]:البحر المحيط 6/279.
[26764]:فصل: سقط من ب.
[26765]:في ب: إن أراد به. وهو تحريف.
[26766]:[المؤمنون: 112، 113].
[26767]:انظر الفخر الرازي 22/115.
[26768]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/115 – 116.
[26769]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26770]:قد: سقط من ب.
[26771]:في ب: و. وهو تحريف.
[26772]:في ب: وما. وهو تحريف.
[26773]:إلا: تكملة من الفخر الرازي.
[26774]:تعالى: سقط من ب.
[26775]:[الأنعام: 32].
[26776]:في ب: الثاني.
[26777]:في ب: الواحد والعشرة.
[26778]:في الأصل: وثانيها. وفي ب: الثالث.
[26779]:في ب: تذكروا أعمال ذلك وأيام النعمة. وهو تحريف.
[26780]:في ب: الرابع.
[26781]:في ب: قليلة. وهو تحريف.
[26782]:في ب: وبهذه.
[26783]:في ب: التعليل.
[26784]:[الروم: 55].
[26785]:"الإيمان": سقط من الأصل، وفي ب: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان}.
[26786]:[الروم: 56].
[26787]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26788]:في ب: أما لمن لم يجوزه فإن.
[26789]:في ب: ثم أحياهم أعني ثم بعثهم.
[26790]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/115- 116.
[26791]:في ب: طلبوا. وهو تحريف.
[26792]:انظر البغوي 5/457.
[26793]:في ب: طلبوا. وهو تحريف.
[26794]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26795]:[النازعات: 46].
[26796]:الفخر الرازي 22/116.