ثم لفت - سبحانه - الأنظار إلى ما فى الأرض من دلائل على قدرته ووحدانيته فقال : { وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } . أى : وفى الأرض آيات عظيمة وعبر وعظات بليغة ، تدل على وحدانية الله وقدرته ، كصنوف النبات ، والحيوانات ، والمهاد ، والجبال ، والقفار ، والأنهار ، والبحار . وهذه الآيات والعبر لا ينتفع بها إلا الموقنون بأن المستحق للعبادة إنما هو الله - عز وجل - .
( وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون ? وفي السماء رزقكم وما توعدون . فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون . . )
وهي لفتة إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس ؛ وتوجيه إلى السماء في شأن الرزق المكتوب والحظ المقدور . تختم بقسم عظيم . قسم الله - سبحانه - بذاته بوصف ( رب السماء والأرض اللتين ورد ذكرهما في هذا المقطع . على أن هذا القول الذي جاءهم من عنده حق يقين . . ( وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون )? . .
هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته . معرض لم نستجل منه حتى اللحظة إلا القليل من بدائعه . ونحن نكشف في كل يوم جديدا منه ، ونطلع منه على جديد . .
ومثل هذا المعرض ، معرض آخر مكنون فينا نحن . . النفس الإنسانية . . الخفية الأسرار ، التي تنطوي فيها أسرار هذا الوجود كله ، لا أسرار الكوكب الأرضي وحده !
وإلى هذين المعرضين الهائلين تشير الآيتان تلك الإشارة المختصرة ، التي تفتح هذين المعرضين على مصاريعهما لمن يريد أن يبصر ، ولمن يريد أن يستيقن ، ولمن يريد أن يملأ حياته حتى تفيض بالمتعة والمسرة ، وبالعبرة الحية ، وبالرصيد القيم من المعرفة الحقة ، التي ترفع القلوب وتضاعف الأعمار !
والنصوص القرآنية معدة للعمل في جميع الأوساط والبيئات والظروف والأحوال . قادرة على إعطاء رصيد معين لكل نفس ولكل عقل ولكل إدراك . كل بقدر ما يتقبل منها وما يطيق .
وكلما ارتقى الإنسان في المعرفة ، واتسعت مداركه ، وزادت معلوماته ، وكثرت تجاربه ، واطلع على أسرار الكون وأسرار النفس . . ارتقى نصيبه ، وتضخم رصيده ، وتنوع زاده الذي يتلقاه من نصوص القرآن . . هذا الكتاب الذي " لا تنفد عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد " كما يقول عنه النبي الذي تلقاه واستوعب أسراره ، وعاش بها . يقول عن تجربة حية وجدها في نفسه فعبر عنها ذلك التعبير - صلوات الله وسلامه عليه - .
ولقد وجد الذين سمعوا هذا القرآن أول مرة من آيات الله في الأرض وآياته في النفس ، نصيبهم ، وتسلموا رصيدهم ، وفق معارفهم وتجاربهم وإشراقات نفوسهم . ووجد كذلك كل جيل أتى بعدهم نصيبا يناسب ما تفتح له من أنواع العلوم والمعارف والتجارب . ونجد نحن نصيبنا وفق ما اتسع لنا من رقعة العلم والمعرفة والتجريب ، وما تكشف لنا من أسرار لا تنفد في هذا الكون الكبير . وستجد الأجيال بعدنا نصيبها مدخرا لها من الآيات التي لم تكشف لنا بعد في الأرض والنفس . ويبقى هذان المعرضان الإلهيان الهائلان حافلين بكل عجيب وجديد إلى آخر الزمان .
هذه الأرض . هذا الكوكب المعد للحياة ، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه ، على نحو يكاد يكون فريدا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل ، الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة . التي يبلغ عدد المعروف منها فقط - والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون - مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم والكواكب هي توابع هذه النجوم !
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته . ولو اختلفت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها . . لو تغير حجمها صغرا أو كبرا ، لو تغير وضعها من الشمس قربا أو بعدا . لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها . لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا . لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ . لو تغير حجم القمر - تابعها - أو بعده عنها . لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصا . . . لو . لو . لو . . . إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته .
أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي ?
ثم . هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكنها . تسكن سطحها ، أو تسبح في أجوائها ، أو تمخر ماءها ، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها ، أو تختفي في مساربها وأجوافها . . هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى ، ولا تحصى أنواع غذائها أيضا . . هذه الأقوات الكامنة في جوفها ، والساربة في مجاريها ، والسابحة في هوائها ، والنابتة على سطحها ، والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول ، ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة ، وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى .
وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها ، حيثما امتد الطرف ، وحيثما تنقلت القدم . وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد : من وهاد وبطاح ، ووديان وجبال ؛ وبحار وبحيرات ، وأنهار وغدران . وقطع متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل صنوان وغير صنوان . . وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير . ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد ، ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر . ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد ، ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر . وهو هو لم ينتقل باعا ولا ذراعا في المكان !
والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء . نباتا وحيوانا . وطيرا وسمكا ، وزواحف وحشرات . . بله الإنسان فالقرآن يفرده بنص خاص . . هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد - فضلا على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل - وكل خليقة منها أمة ! وكل فرد منها عجيبة . كل حيوان . كل طائر . كل زاحفة . كل حشرة . كل دودة . كل نبتة : لا بل كل جناح في يرقة ، وكل ورقة في زهرة ، وكل قصبة في ورقة ! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه .
ولو مضى الإنسان - بل لو مضى الأناسي جميعا - يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب ، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات ، ما انتهى لهم قول ولا إشارة . والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر ، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل ، طوال الرحلة على هذا الكوكب ، والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة .
غير أنه لا يدرك هذه العجائب ، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع ، إلا القلب العامر باليقين . ( وفي الأرض آيات للموقنين ) . . فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك ؛ وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة ، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع . وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء ؛ لا تنطق للقلب بشيء ؛ ولا تتجاوب معه بشيء . وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب . لا يحسون فيه حياة ، ولا يفقهون له لغة ؛ لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم ، ولم تبث الحياة فيما حولهم ! وقد يكون منهم علماء ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) . أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم ، فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان ، ولا تراها إلا بنور اليقين . . وصدق الله العظيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.