وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى . . } إشارة إلى المرة الثانية التى رأى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - جبريل على هيئته التى خلقه الله - تعالى - عليها ، وكان ذلك فى ليلة الإسراء والمعراج . أى : والله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلق عليها ، حالة كونه نازلا من السماء نزلة أخرى .
وقد جاء الإخبار عن هذه الرؤية بصيغة مؤكدة بلام القسم وبقد . . . للرد على المشركين الذين أنكروا ذلك ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لئن كنتم قد أنكرتم هذه الرؤية فى الأرض ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يره فى الأرض فقط ، بل رآه رؤة أعظم من لك ، وهى رؤيته له فى السماء ، حين كان مصاحبا له فى رحلته ليلة الإسلاء والمعراج .
قال الآلوسى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } أى : رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلقه الله عليها { نَزْلَةً أخرى } أى : مرة أخرى ، وهى فعلة من النزول ، أقيمت مقام المرة ، ونصبت نصبها على الظرفية ، لأن أصل المرة مصدر مر يمر ، ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه . ولم يقل مرة بدل نزلة ، ليفيد أن الرؤية فى هذه المرة ، كانت بنزول ودنو ، كالرؤية فى المرة الأولى ، الدال عليها ما مر . .
والمراد من الجملة القسمية ، نفى الريبة والشك عن المرة الأخيرة ، وكانت ليلة الإسراء .
وقوله : وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى يقول : لقد رآه مرّة أخرى . واختلف أهل التأويل في الذي رأى محمد نزلة أخرى نحو اختلافهم في قوله : ما كَذَبَ الفُؤَادُ ما رأَى . ذكر بعض ما رُوي في ذلك من الاختلاف . ذكر من قال فيه رأى جبريل عليه السلام :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة ، أن عائشة قالت : يا أبا عائشة من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله قال : وكنت متكئا ، فجلست ، فقلت : يا أمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، أرأيت قول الله وَلَقَدْ رآه نَزْلَةً أُخْرَى وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ المُبِينِ قالت : إنما هو جبريل رآه مرّة على خلقه وصورته التي خلق عليها ، ورآه مرّة أخرى حين هبط من السماء إلى الأرض سادّا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ، قالت : أنا أوّل من سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية ، قال : «هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ وعبد الأعلى ، عن داود ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة بنحوه .
حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : كنت عند عائشة ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت له : يا أبا عائشة ، من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ، والله يقول : لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحيْا أوْمِنْ وَرَاء حِجاب قال : وكنت متكئا ، فجلست وقلت : يا أمّ المؤمنين انتظري ولا تعجلي ألم يقل الله وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى وَلَقَدْ رآهُ بالأُفُق المُبِين فقالت : أن أوّل هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : «لَمْ أَرَ جِبْرِيلَ عَلى صُورَتِهِ إلاّ هاتَيْن المَرّتَيْن مُنْهَبِطا مِنَ السّماء سادّا عِظَم خَلْقِهِ ما بَينَ السّماءِ والأرْض » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : كنت متكئا عند عائشة ، فقالت : يا أبا عائشة ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن ابن مسعود وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى قال : رأى جبريل في رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن مرّة ، عن ابن مسعود لَقَدْ رآهُ نُزَلَةً أُخْرَى قال : رأى جبريل في وبر رجليه كالدرّ ، مثل القطر على البقل .
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن مرّة في قوله : وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن مجاهد وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى قال : رأى جبريل في صورته مرّتين .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سلمة بن كهيل الحضرميّ ، عن مجاهد ، قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته مرّتين .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع وَلَقَدْ رآه نَزْلَةً أخْرَى قال : جبريل عليه السلام .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر ، قال : ثني عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن كعب أنه أخبره أن الله تبارك وتعالى قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد ، فكلّمه موسى مرّتين ، ورآه محمد مرّتين ، قال : فأتى مسروق عائشة ، فقال : يا أمّ المؤمنين ، هل رأى محمد ربه ، فقالت : سبحان الله لقد قفّ شعري لما قلت : أين أنت من ثلاثة من حدّثك بهنّ فقد كذب ، من أخبرك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت لا تُدْرِكُه الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارُ وَهُوَ اللّطِيفُ الخَبِير وَما كانَ لِبَشَر أنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحْيا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجاب ومن أخبرك ما في غد فقد كذب ، ثم تلت آخر سورة لقمان إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنْزّلُ الغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما في الأرْحام وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ ومن أخبرك أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب ، ثم قرأت ، يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ قالت : ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرّتين .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، قال : ثني إسماعيل ، عن عامر ، قال : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت كعبا ، ثم ذكر نحو حديث عبد الحميد بن بيان ، غير أنه قال في حديثه فرآه محمد مرّة ، وكلّمه موسى مرّتين . ذكر من قال فيه : رأى ربه عزّ وجلّ .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن سماك بن عكرِمة ، عن ابن عباس أنه قال : وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه ، فقال له رجل عند ذلك : أليس لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدرِكُ الأبْصَارَ ؟ قال له عكرِمة : أليس ترى السماء ؟ قال : بلى ، أفكلها ترى ؟ .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن ابن عباس ، في قول الله : وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى قال : دنا ربه فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى قال : قال ابن عباس قد رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم .