مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ} (13)

وأكد بقوله تعالى : { ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى } وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما رآه وهو على بسيط الأرض كان يحتمل أن يقال إنه من الجن احتمالا في غاية البعد ، لما بينا أنه صلى الله عليه وسلم حصل له العلم الضروري بأنه ملك مرسل ، واحتمال البعيد لا يقدح في الجزم واليقين ، ألا ترى أنا إذا نمنا بالليل وانتبهنا بالنهار نجزم بأن البحار وقت نومنا ما نشفت ولا غارت ، والجبال ما عدمت ولا سارت ، مع احتمال ذلك فإن الله قادر على ذلك وقت نومنا ، ويعيدها إلى ما كانت عليه في يومنا ، فلما رآه عند سدرة المنتهى وهو فوق السماء السادسة لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس ، فنفى ذلك الاحتمال أيضا فقال تعالى : { أفتمارونه على ما يرى } رأي العين ، وكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقدرون فيه وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الواو يحتمل أن تكون عاطفة ، ويحتمل أن تكون للحال على ما بيناه ، أي كيف تجادلونه فيما رآه ، على وجه لا يشك فيه ؟ ومع ذلك لا يحتمل إيراد الشكوك عليه ، فإن كثيرا ما يشك المعتقد لشيء فيه ولكن تردد عليه الشكوك ولا يمكنه الجواب عنها ، ولا تثريب مع ذلك في أن الأمر كما ذكرنا من المثال ، لأنا لا نشك في أن البحار ما صارت ذهبا والجبال ما صارت عهنا ، وإذا أورد علينا مورد شكا ، وقال وقت نومك يحتمل أن الله تعالى قلبها ثم أعادها لا يمكننا الجواب عنه مع أنا لا نشك في استمرارها على ما هي عليه ، لا يقال اللام تنافي كون الواو للحال ، فإن المستعمل يقال أفتمارونه ، وقد رأى من غير لام ، لأنا نقول الواو التي للحال تدخل على جملة والجملة تتركب من مبتدأ وخبر ، أو هن فعل وفاعل ، وكلاهما يجوز فيه اللام .

المسألة الثانية : قوله { نزلة } فعلة من النزول فهي كجلسة من الجلوس ، فلا بد من نزول ، فذلك النزول لمن كان ؟ نقول فيه وجوه ، وهي مرتبة على أن الضمير في رآه عائد إلى من وفيه قولان : ( الأول ) عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى ، وهذا على قول من قال { ما رأى } في قوله { ما كذب الفؤاد ما رأى } هو الله تعالى . وقد قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين ، وعلى هذا فالنزلة تحتمل وجهين : ( أحدهما ) أنها لله ، وعلى هذا فوجهان : ( أحدهما ) قول من يجوز على الله تعالى الحركة والانتقال وهو باطل ( وثانيهما ) النزول بالقرب المعنوي لا الحسي فإن الله تعالى قد يقرب بالرحمة والفضل من عبده ولا يراه العبد ، ولهذا قال موسى عليه السلام { رب أرني } أي أزل بعض حجب العظمة والجلال ، وادن من العبد بالرحمة والإفضال لأراك .

( الوجه الثاني ) أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الله نزلة أخرى ، وحينئذ يحتمل ذلك وجهين : ( أحدهما ) أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على متن الهوى ومركب النفس ولهذا يقال لمن ركب متن هواه إنه علا في الأرض واستكبر ، قال تعالى : { علا في الأرض } ( ثانيهما ) أن المراد من النزلة ضدها وهي العرجة كأنه قال رآه عرجة أخرى ، وإنما اختار النزلة ، لأن العرجة التي في الآخرة لا نزلة لها فقال نزلة ليعلم أنها من الذي كان في الدنيا ( والقول الثاني ) أنه عائد إلى جبريل عليه السلام أي رأى جبريل نزلة أخرى ، والنزلة حينئذ يحتمل أن تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ورد في بعض أخبار ليلة المعراج ، جاوز جبريل عليه السلام ، وقال له جبريل عليه السلام لو دنوت أنملة لاحترقت ، ثم عاد إليه فذلك نزلة . فإن قيل فكيف قال : { أخرى } ؟ نقول لأن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة تردد مرارا فربما كان يجاوز كل مرة ، وينزل إلى جبريل ، ويحتمل أن تكون لجبريل عليه السلام وكلاهما منقول وعلى هذا الوجه فنزلة أخرى ظاهر ، لأن جبريل كان له نزلات وكان له نزلتان عليه وهو على صورته .