34- { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } .
والقرآن منطقي معهم ، فخلاصة معنى الآية السابقة : إن محمدا عبقريّ ، قد تقوّل القرآن من عند نفسه ، ونسبه إلى الله تعالى كذبا وزورا .
وهنا يمسك القرآن بتلابيبهم فيقول : محمد نشأ بينكم ، وما قرأ كتابا ، ولا اشترك في مناقشة شاعر أو كاهن ، أو خطيب أو فصيح من فصحائكم ، فإذا ادعيتم أنه تقوّل القرآن ، أي نسبه كذبا إلى الله تعالى ، كان المعنى : إن في استطاعة الأذكياء منكم أن يأتوا بمثله فافعلوا ، وائتوا بقرآن مثل هذا إن كنتم صادقين ، أو ائتوا بعشر سور مثله مفتريات ، أو ائتوا بسورة مما نزلنا على عبدنا ، ثم تحدّاهم أمثالهم من الملحدين المحدثين ، الذين يدّعون أن القرآن نتاج عبقرية محمد ، وقوة تخيّله أو هو نوع من أحلام اليقظة ، أو منظومة إصلاحية عالية .
هذه التهم التي يذكرها بعض المستشرقين ، وبعض من يسيرون خلفهم ، فنَّدها القرآن سابقا بهذا التحدي : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } .
هؤلاء هم الفلاسفة ، وعلماء النفس والاجتماع ، والأدباء والشعراء ، والكتّاب والقصاص ، هل في استطاعتهم أفرادا أو مجتمعين ، أن يأتوا بمثل هذا الكتاب ؟
إن كان الملحدون صادقين ، { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ } . . .
قال تعالى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا . } ( الإسراء : 88 )
إن إعجاز القرآن تنوع في عصور تاريخية ، فكان كتاب كل العصور ، فعند نزوله كان العرب أرباب الفصاحة والبيان فتحدّى القرآن العرب ، وطالت مدة التحدّي ، وقد حارب العرب محمدا ، وقاتلوه وقاتلهم ، وهزموه في معارك قليلة ، وهزمهم في معارك كثيرة .
وكان الباعث لهم على اختراع مثل القرآن موجودا ، ومحاولة انتصاف المشركين لأنفسهم موجودة ، ولقد حاول المشركون الإتيان بمثل القرآن ، وجاءوا بكلام دون القرآن بكثير ، وكانت محاولاتهم أدل على إعجاز القرآن وتفوّقه عن المماثلة .
قال بعضهم : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر . . .
وقال مسيلمة الكذاب : والزارعات زرعا ، فالحاصدات حصدا ، فالعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، فالآكلات لقما . . . ، فقال له أحد المسلمين : وماذا بعد ذلك ؟
وعندما تقدمت العلوم والفنون ، ظنّ الملحدون أن أهمية الأديان ستقل أمام التقدم العلمي ، والإحصاءات العلمية في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها تؤيد حاجة الأفراد والمجتمعات إلى الدّين ، فهو شفاء النفس ، وسعادة الإنسان الحقيقية ، وقد أشار إحصاء لطبيب أمريكي أجراه على آلاف المرضى المترددين على عيادات الأطباء في أمريكا ، وظهر من الإحصاء أن 50% ( خمسين في المائة ) من المترددين على عيادات الأطباء ، ليست بهم أمراض إكلينيكية أو عضوية ، وإنما هو الإحباط والخوف والحيرة والتردد ، وإن الدّين هو أفضل علاج لمثل هذه الأمراض ، التي يعجز الطب البشري عن علاجها .
إن القرآن شفاء مادّي ومعنوي للمجتمعات والأفراد .
قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا } . ( الإسراء : 82 ) .
{ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ } مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى { إِن كَانُواْ صادقين } فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار ، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ؛ ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك ، فالكلام ردّ للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام ، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدعى ، وجوز أن يكون ردّاً لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فساداً منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم ، وقرأ الجحدري ، وأبو السمال بحديث مثله على الإضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحداً منهم فلا يعْوِز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبداً .
{ فليأتوا بحديث مثله } : أي فليأتوا بقرآن مثله يختلقونه بأنفسهم .
{ إن كانوا صادقين } : أي في أن محمداً صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن .
والدليل على صحة ذلك تحدى الله تعالى لهم بالإِتيان بحديث مثله وعجزهم عن ذلك فلذا هم لا يعتقدون ولا يرون أن الرسول تقول القرآن من عنده ، وإنما لما لم يؤمنوا به لا بد أن يقولوا كلمة يدفعون بها عن أنفسهم فقالوا تقوله فقال تعالى { بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله } أي مثل القرآن { إن كانوا صادقين } في قولهم إن الرسول تقوله .
- حرمة الكذب مطلقا وعلى الله ورسوله بخاصة لما ينشأ عنه من فساد الدين والدنيا .