اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلۡيَأۡتُواْ بِحَدِيثٖ مِّثۡلِهِۦٓ إِن كَانُواْ صَٰدِقِينَ} (34)

ثم ألزمهم الحُجَّة وأبطل جميع الأقسام فقال : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } أي القُرْآنِ ونظمه { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أنَّ محمداً تقوَّلهُ من قِبَلِ نفسه ، ولما امتنع ذلك كَذَّبوا في الكُلّ .

قوله : «فَلْيأتُوا » الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى بهِ لِيَصحَّ{[53232]} كلامُهُم ويبطل كلامه . قال بعض العلماء : وهذا أمر تعجيزٍ{[53233]} قال ابن الخطيب : والظاهر أن الأَمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل : إيتوا مطلقاً بل قال : إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يَجِبُ الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم{[53234]} .

قوله : «بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ » العامة على تنوين «حَدِيثٍ » وَوَصْفِهِ ب «مِثْلِهِ » . والجَحْدَرِيُّ وأبو السَّمَّال «بحَدِيثِ مِثْلِهِ »{[53235]} بإضافة حديث إلى «المِثْل » على حذف موصوف أي بحديثِ رجلٍ مِثْلِهِ من جِنْسِهِ .

فصل

قالت المعتزلة : الحديث مُحْدَث ، والقرآن سماه حديثاً فيكون مُحْدَثاً .

وأجيبوا : بأن الحديث اسمٌ مشترك يقال للمُحْدَث{[53236]} والمنقول وهذا يصح أن يقال : هذا حديث قديم أي متقادم العَهْد ، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لاَ نِزَاع فِيهِ .

فإن قيل : الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا : «حَدِيث » وهو مُنَكَّر ، و«مِثْلِهِ » مضاف إلى «القرآن » والمضاف إلى القرآن مُعَرَّف فكيف هذا ؟

فالجواب : أن «مِثْلاً » و«غَيْراً » لا يتعرَّفان بالإضافة{[53237]} ، وكذلك كل ما هو مثله كشِبْهٍ ، وذلك أن «غَيْراً ومِثْلاً » وأمثالهما في غاية التنكير ؛ لأنك إذا قلت : «مِثْلُ زَيْدٍ » يتناول كل شيء ، فإن كل شيء مثل زيد في شيء{[53238]} فالحِمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنباتُ مثله في النُّشُوء والنَّمَاء والذّبُول والفَنَاء ، والحَيَوَان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف . وأما «غَيْرُ » فهو عند الإضافة ينكَّر وعند قطع الإضافة ربَّما يَتَعرَّف{[53239]} ؛ فإنك إذا قلت : غَيْر زيدٍ صار في غاية الإبهام ، فإنه يتناول أموراً لا حصر لها ، وأما إذا قطعتَ «غير » عن الإضافة فربَّما يكون الغَيْرُ والمُغَايَرَةُ من بابٍ واحد وكذلك التَّغيُّر فتجعل الغير كأسماء الجنس وتَجْعَلُهُ مبتدأ أو تريد به معنى معيَّناً .


[53232]:كذا في النسختين وفي الرازي: ليصحّح أي الآتون به. وقد نقل هذا الرأي في معنى الفاء فخر الدين الرازي في تفسيره السابق.
[53233]:فيراد به المجاز.
[53234]:من اللطائف التي تكثر في تفسير الإمام الرازي والتي تدل على تميّز كتابه دون كتب التفاسير الأخرى باللطائف وإعمال العقل. وانظر المرجع السابق.
[53235]:وهي قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط بنسبة 7/152 بينما نسب الإمام القرطبي القراءة إلى الجحدري في 17/73.
[53236]:في ب للحدث وهو تحريف.
[53237]:لشدة إبهامها كما سيأتي.
[53238]:عبارة الرازي: فإنك إذا قلت: "ما رأيت شيئا مثل زيد" يتناول كل شيء فإن كل شيء مثل زيد في كونه شيئا.
[53239]:"غير" اسم ملازم للإضافة في المعنى، ويجوز أن يقطع عنها لفظا إن فهم المعنى وتقدمت عليها كلمة "ليس" وتستعمل غير المضافة لفظا على وجهين: أحدهما: وهو الأصل: أن تكون صفة للنكرة نحو "نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل" أو لمعرفة قريبة منها نحو: "صراط الذين أنعمت عليهم"؛ لأن المعرف الجنسي قريب من النكرة ولأن "غيرا" إذا وقعت بين ضدّين ضعف إبهامها حتى زعم ابن السراج أنها حينئذ تتعرف وترده الآية الأولى. الثاني: أن تكون استثناء فتعرب إعراب الاسم التالي إلا في ذلك الكلام. وانظر المغني 158 و157 والأشموني 2/266 و267.