وفي ظل هذه الكرامة للذين قتلوا في سبيل الله . وفي ظل ذلك الرضى ، وتلك الرعاية ، وبلوغ ذلك المقام . يحرض الله المؤمنين على التجرد لله ، والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة ؛ ويعدهم على هذا النصر والتثبيت في المعركة ؛ والتعس والضلال لأعدائهم وأعدائه :
( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) . .
وكيف ينصر المؤمنون الله ، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت ?
إن لله في نفوسهم أن تتجرد له ، وألا تشرك به شيئا ، شركا ظاهرا أو خفيا ، وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا ، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها ، وسرها وعلانيتها ، ونشاطها كله وخلجاتها . . فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة ، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة . ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء ، فهذا نصر الله في واقع الحياة .
ونقف لحظة أمام قوله تعالى : ( والذين قتلوا في سبيل الله ) . . وقوله : ( إن تنصروا الله ) . .
وفي كلتا الحالتين . حالة القتل . وحالة النصرة . يشترط أن يكون هذا لله وفي سبيل الله . وهي لفتة بديهية ، ولكن كثيرا من الغبش يغطي عليها عندما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال . وعندما تمتهن كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص ، وتنحرف عن معناها الوحيد القويم .
إنه لا جهاد ، ولا شهادة ، ولا جنة ، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده ، والموت في سبيله وحده ، والنصرة له وحده ، في ذات النفس وفي منهج الحياة .
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا . وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم ، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء .
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ? فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .
وليس هنالك من راية أخرى ، أو هدف آخر ، يجاهد في سبيله من يجاهد ، ويستشهد دونه من يستشهد ، فيحق له وعد الله بالجنة . إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف . من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات !
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية ، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة ، وألا يلبسوا برايتهم راية ، ولا يخلطوا بتصورهم تصورا غريبا على طبيعة العقيدة .
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا . العليا في النفس والضمير . والعليا في الخلق والسلوك . والعليا في الأوضاع والنظم . والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة . وما عدا هذا فليس لله . ولكن للشيطان . وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد .
وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام . وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف .
وإذا عز على غير أصحاب الدعوة لله أن يتخلصوا من هذا الغبش وسوء التصور والانحراف ، فلا أقل من أن يخلص الدعاة إلى الله أنفسهم ومشاعرهم وتصورهم من منطق البيئة الذي لا يتفق مع البديهة الأولى في شرط الله . .
وبعد فهذا شرط الله على الذين آمنوا . فأما شرطه لهم فهو النصر وتثبيت الأقدام . وعد الله لا يخلفه . فإذا تخلف فترة ؛ فهو أجل مقدر لحكمة أخرى تتحقق مع تحقق النصر والتثبيت . ذلك حين يصح أن المؤمنين وفوا بالشرط ثم تخلف عنهم - فترة - نصر الله .
ثم نقف لحظة أمام لفتة خاصة في التعبير : ( ينصركم . ويثبت أقدامكم ) . .
إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر ، ويكون سببا فيه . وهذا صحيح . ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت . معنى التثبيت على النصر وتكاليفه . فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان ، وبين الحق والضلال . فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة . للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر . وفي عدم التراخي بعده والتهاون . وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء . ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء . وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر . ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن . والعلم لله .
وقوله تعالى : { إن تنصروا الله } فيه حذف مضاف ، أي دين الله ورسوله ، والمعنى : تنصروه بجدكم وإيمانكم { ينصركم } بخلق القوة لكم والجرأة وغير ذلك من المعاون .
وقرأ جمهور الناس : «ويثبّت » بفتح التاء المثلثة وشد الباء . وقرأ المفضل عن عاصم : «ويثْبِت » بسكون الثاء وتخفيف الباء ، وهذا التثبيت هو في مواطن الحرب على الإسلام ، وقيل على الصراط في القيامة .
لما ذكر أنه لو شاء الله لانتصر منهم عُلم منه أن ما أمر به المسلمين من قتال الكفار إنما أراد منه نصرَ الدين بخضد شوكة أعدائه الذين يصدون الناس عنه ، أتبعه بالترغيب في نصر الله والوعد بتكفل الله لهم بالنصر إن نصروه ، وبأنه خاذل الذين كفروا بسبب كراهيتهم ما شرعه من الدين .
فالجملة استئناف ابتدائي لهاته المناسبة . وافتتح الترغيب بندائهم بصلة الإيمان اهتماماً بالكلام وإيماء إلى أن الإيماء يقتضي منهم ذلك ، والمقصود تحريضهم على الجهاد في المستقبل بعد أن اجتنوا فائدته مشاهدة يوم بدر .
ومعنى نصرهم الله : نصرُ دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن الله غني عن النصر في تنفيذ إرادته كما قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } [ محمد : 4 ] . ولا حاجة إلى تقدير مضاف بين { تنصروا } واسم الجلالة تقديره : دين الله ، لأنه يقال : نصر فلان فلاناً ، إذا نصر ذويه وهو غير حَاضر . وجيء في الشرط بحرف { إنْ } الذي الأصل فيه عدم الجزم بوقوع الشرط للإشارة إلى مشقة الشرط وشدته ليُجعل المطلوبُ به كالذي يشك في وفائه به .
وتثبيت الأقدام : تمثيل لليقين وعدم الوهن بحالة من ثبتت قدمه في الأرض فلم يَزِل ، فإن الزلل وهَن يسقط صاحبه ، ولذلك يمثَّل الانهزام والخيبة والخطأ بزلل القدم قال تعالى : { فتزل قدَم بعد ثبوتها } [ النحل : 94 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.