بعد ذلك يجيء المقطع الأخير في السورة . في إيقاع كامل التنغيم ، أشبه بإيقاع المقطع الأول . يقرر الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم صاحب الحنيفية الأولى . ويعرف البشر بخالقهم ، بتعليمهم بمشيئته الفاعلة المبدعة المؤثرة في حياتهم ويعرض آثارها واحدا واحدا بصورة تلمس الوجدان البشري وتذكره وتهزه هزا عميقا . . حتى إذا كان الختام وكان الإيقاع الأخير تلقته المشاعر مرتجفة مرتعشة متأثرة مستجيبة :
( أفرأيت الذي تولى ، وأعطى قليلا وأكدى ? أعنده علم الغيب فهو يرى ? أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى . ألا تزر وازرة وزر أخرى . وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . ثم يجزاه الجزاء الأوفى . وأن إلى ربك المنتهى . وأنه هو أضحك وأبكى . وأنه هو أمات وأحيا . وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى . وأن عليه النشأة الأخرى ، وأنه هو أغنى وأقنى . وأنه هو رب الشعرى . وأنه أهلك عادا الأولى . وثمود فما أبقى . وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى . والمؤتفكة أهوى . فغشاها ما غشى . فبأي آلاء ربك تتمارى ? هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون ، وتضحكون ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) . . وذلك ( الذي تولى ، وأعطى قليلا وأكدى ) . . الذي يعجب الله من أمره الغريب ، تذكر بعض الروايات أنه فرد معين مقصود ، أنفق قليلا في سبيل الله ، ثم انقطع عن البذل خوفا من الفقر . ويحدد الزمخشري في تفسيره " الكشاف " شخصه ، أنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ويذكر في ذلك قصة ، لا يستند فيها إلى شيء ، ولا يقبلها من يعرف عثمان - رضي الله عنه - وطبيعته وبذله الكثير الطويل في سبيل الله بلا توقف وبلا حساب كذلك ؛ وعقيدته في الله وتصوره لتبعة العمل وفرديته .
وقد يكون المقصود شخصا بذاته . وقد يكون نموذجا من الناس سواء . فالذي يتولى عن هذا النهج ، ويبذل من ماله أو من نفسه لهذه العقيدة ثم يكدي - أي يضعف عن المواصلة ويكف - أمره عجيب ، يستحق التعجيب ويتخذ القرآن من حاله مناسبة لعرض حقائق العقيدة وتوضيحها .
{ وأعطى قليلا وأكدى } وقطع العطاء من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية وهي الصخرة الصلبة فترك الحفر . والأكثر على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بعض المشركين وقال : تركت دين الأشياخ وضللتهم قال أخشى عذاب الله تعالى فضمن أن يتحمل عنه العقاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطى بعض المشروط ثم بخل بالباقي .
توبيخ من اعترف بالحق ثم أعرض عنه
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى ( 34 ) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 ) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 ) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 ) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( 39 ) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( 40 ) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ( 41 ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( 42 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( 43 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 ) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ( 45 ) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( 46 ) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ( 47 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( 48 ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ( 49 ) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ( 50 )وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ( 51 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ( 53 ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( 54 ) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( 55 ) } .
تولى : أعرض عن اتباع الإسلام ، وعن الثبات على الحق .
وأكدى : قطع العطاء ، من قولهم : حفر فأكدى ، أي : بلغ إلى كدية ، أي صخرة تمنعه من إتمام العمل .
33 ، 34 ، 35- { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } .
هل شاهدت هذا النموذج من الناس ، الذي رقّ قلبه للإسلام ، وعظَّم القرآن ومدحه ، ثم تولى عن الإسلام وأعرض عنه ، وأعطى بلسانه مدحا للقرآن ، ثم منع ذلك المدح لكتاب الله ورفض الإسلام ، استجابة لتحريض صديق له من المشركين ، حرَّضه على الكفر ، ووعده بأن يتحمل عنه العذاب يوم القيامة ، وأمر القيامة وشؤونه4ا غيب لا يعلمه4ا إلا الله ، ولا يُعرف إلا بطريق الوحي ، فهل نزل عليه وحي يؤيد أن صاحبه سيتحمل عنه العذاب ؟ وهل عنده غيب من عند الله يفيد أن الله سيقبل أن يتحمل إنسان العذاب عن إنسان آخر ؟
{ وأعطى قليلا } أعطى شيئا قليلا من المال . { وأكدى } قطع العطاء ؛ من قولهم : أكدى الحافر ، إذا بلغ حفره إلى الكدية – وهي حجر صلب – فلم يمكنه الحفر فانقطع عنه . وكديت أصابعه : إذا كلت من الحفر فلم تعمل شيئا . نزلت في الوليد بن المغير حين همّ بالإسلام بعد أن سمع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشهد تلاوة القرآن ، وجلس إلى الرسول ووعظه ؛ فعاتبه أحد المشركين ، وضمن له أن يتحمل عنه عذاب الآخرة إذا أعطاه كذا وكذا من المال ؛ فرجع عما همّ به وأعطى الذي ضمن له بعض المال ثم منعه تمامه .
{ وأعطى قَلِيلاً } أي شيئاً قليلاً ، أو إعطاءاً قليلاً { وأكدى } أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كديه أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر ، قال مجاهد . وابن زيد : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين ، وقال له : أتترك ملة آبائك ؟ا ارجع إلى دينك وأثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وصل ضلالاً بعيداً ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح ، وقال الضحاك : هو النضر بن الحرث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه ، وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور ، وقال محمد بن كعب : في أبي جهل قال : والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق ، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه :
{ أعطى قليلاً وأكدى } : أي أعطى من زعم أنه يتحمل عنه عذاب الآخرة أعطاه ما وعده من المال ثم منع .
{ وأعطى قليلاً } أي من المال للشيطان المشرك الذي اتفق معه على أن يتحمل عليه العذاب مقابل مال يعطيه إياه أقساطاً . { وأكدى } أي قطع ومنع لأن الذي يحفر بئراً في أرض أحياناً تصادفه كدية من الأرض الصلبة يعجز عن الحفر فينقطع عن الحفر ويمتنع كذلك الوليد أعطى ثم امتنع وهو معنى أكدى أي انتهى إلى كدية من الأرض الصلبة .
قوله تعالى : { وأعطى } صاحبه ، { قليلاً وأكدى } بخل بالباقي . وقال مقاتل : أعطى يعني الوليد قليلاً من الخير بلسانه ، وأكدى : ثم أكدى يعني قطعه وأمسك ولم يقم على العطية . وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور . وقال محمد بن كعب القرظي نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق ، فذلك قوله :{ وأعطى قليلاً وأكدى } لم يؤمن به ، ومعنى أكدى : يعني اقطع ، وأصله من الكدية ، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر ، تقول العرب : أكدى الحافر وأجبل ، إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأعطى قليلا} من الخير بلسانه {وأكدى} يعني قطع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله، وأعرض عنه وعن دينه، وأعطى صاحبه قليلاً من ماله، ثم منعه فلم يعطه، فبخِل عليه. وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة، ففعل، فأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له، ثم بخل عليه ومنعه تمام ما ضمن له... عن ابن عباس" أعْطَى قَلِيلاً وأكْدَى "قال: أعطى قليلاً ثم انقطع...
قال ابن زيد، في قوله: "وأكْدَى": عاسره، والعرب تقول: حفر فلان فأكدى، وذلك إذا بلغ الكدية، وهو أن يحفِر الرجل في السهل، ثم يستقبله جبل فيُكْدِي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وأعطى قليلاً وأكدى} -على هذا القول- هو في المال، وقال مقاتل بن حيان في كتاب الثعلبي المعنى: وأعطى من نفسه قليلاً من قربه من الإيمان ثم {أكدى} أي انقطع ما أعطى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأعطى قليلاً وأكدى} أي قطع ذلك العطاء على مكده وقلته وأبطله وأفسده فصار كالحافر الذي وصل في حفره إلى كدية، يقال لحافر البئر: أجبل -إذا وصل إلى جبل، وأكدى- إذا وصل إلى كدية أي صفاة عظيمة شديدة لا تعمل فيها المعاول، فصار لا يقدر معها على شيء من علمه، ولا يستطيع النفوذ فيها بشيء من حيله، وقد كان قبل ذلك لما صادف التراب اللين يظن أنه لا يمنعه مانع مما يريد، فهذا دليل خبري شهودي على أنه لا علم لأحد من الخلق بما حباه الله في نفسه فضلاً عن غيره، فلا ينبغي لأحد أن يزكي نفسه ولا غيره...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فإن سمحت نفسه ببعض الشيء، القليل، فإنه لا يستمر عليه، بل يبخل ويكدى ويمنع. فإن المعروف ليس سجية له وطبيعة بل طبعه التولي عن الطاعة، وعدم الثبوت على فعل المعروف، ومع هذا، فهو يزكي نفسه، وينزلها غير منزلتها التي أنزلها الله بها...