تركناها آية : أبقينا ذكرها عبرة وعظة .
15- { وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } .
لقد تركنا تلك الحادثة – وهي الطوفان – عبرة وبيانا للقدرة الإلهية التي تمحق المكذبين ، وتنصر المؤمنين ، فهل من معتبر ومتعظ .
وقيل : المعنى : تركنا السفينة مدّة طويلة ليعتبر بها من يعتبر ، وأمثالها صار رمادا ونخر فيه السوس .
{ ولقد تركاها } أي أبقينا هذه الفعلة التي فعلناها بهم{ آية } عبرة وعظة لمن يعتبر ويتعظ بها . { فهل من مدكر } فهل من معتبر يعتبر بها ؟ استفهام بمعنى النفي ؛ أي لا معتبر ولا متعظ بها . وأصله مذتكر من الذكر . أبدلت التاء دالا مهملة وكذا الذال المعجمة وأدغمت فيها ؛ ومنه : " وادكر بعد أمة " {[338]} أي تذكر بعد نسيان .
{ وَلَقَدْ تركناها } أي أبقينا السفينة { ءايَةً } بناءاً على ما روي عن قتادة . والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة ، أو أبقينا خبرها ، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن ، أو تركنا بمعنى جعلنا ، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار ، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية مذكر بالذال المعجمة على قلب تار الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال ، وقال صاحب اللوامح : قرأ قتادة فهل من مذكر بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها ، وقرئ مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل .
{ ولقد تركناها } : أي إغراقنا لهم على الصورة التي تمت عليها .
{ آية } : أي لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم .
{ فهل من مدّكر } : أي معتبر ومتعظ بها .
وقوله { ولقد تركناها آية } أي تلك الفعلة التي فعلنا بهم وهي إغراقنا لهم تركناها آية للاعتبار لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم .
وقوله تعالى { فهل من مدّكر } أي معتبر ومتعظ بها .
- تقرير حادثة الطوفان والتي لا ينكرها إلا سفيه لم يحترم عقله .
{ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } أي : ولقد تركنا قصة نوح مع قومه آية يتذكر بها المتذكرون ، على أن من عصى الرسل وعاندهم أهلكه الله بعقاب عام شديد ، أو أن الضمير يعود إلى السفينة وجنسها ، وأن أصل صنعتها تعليم
من الله لعبده{[931]} نوح عليه السلام ، ثم أبقى الله تعالى صنعتها وجنسها بين الناس ليدل ذلك على رحمته بخلقه وعنايته ، وكمال قدرته ، وبديع صنعته ، { فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } ؟ أي : فهل من متذكر{[932]} للآيات ، ملق ذهنه وفكرته لما يأتيه منها ، فإنها في غاية البيان واليسر ؟
قوله تعالى : { ولقد تركناها } يعني : الفعلة التي فعلنا ، { آية } يعتبر بها . وقيل : أراد السفينة . قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة . عبرةً وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، { فهل من مدكر } يعني : متذكر متعظ معتبر خائف مثل عقوبتهم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلاً سأل الأسود عن قوله : ( فهل من مدكر ) أو مذكر ؟ قال : سمعت عبد الله يقرؤها ( فهل من مدكر ) ، وقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها : ( فهل من مدكر ) " دالاً " .
والضمير المنصوب فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً . . . } يعود إلى الفعلة المهلكة التى فعلها الله - تعالى - بقوم نوح - عليه السلام - .
أى : ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح ، وإهلاكنا لهم ، آية وعلامة لمن بعدهم . وعظة وعبرة لمن يعتبر ويتعظ بها .
ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً . . . } ويصح أن يكون الضمير يعود إلى السفينة . أى : ولقد أبقينا هذه السفينة من بعد إهلاك قوم نوح ، علامة وعبرة لمن يشاهدها .
ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } قال القرطبى : قوله : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً . . . } يريد هذه الفعلة عبرة .
وقيل : أراد السفينة ، تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل . . .
قال قتادة : أبقاها الله - تعالى - بِبَاقِرْدَى ، من أرض الجزيرة - قرب الموصل بالعراق - لتكون عبرة وآية ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة صارت بعدها رمادا . . .
ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للرأيين فهذه العقوبة التى أنزلها - سبحانه - بقوم نوح - عليه السلام - بقيت عبرة لمن بعدهم لينزجروا ، ويكفوا عن تكذيب الرسل ، كما أن السفينة قد أبقاها - سبحانه - بعد إغراقهم إلى الزمن الذى قدره وأراده ، لتكون - أيضا - عبرة وعظة لغيرهم .
والاستفهام فى قوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } للحض على التذكر والاعتبار ، ولفظ { مُّدَّكِرٍ } أصله مذتكر من الذُّكْر الذى هو ضد النسيان ، فأبدلت التاء دالا مهملة ، وكذا الذاتل المعجمة ثم أدغمت فيها ، ومنه قوله - تعالى - : { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ . . } أى : وتكذر بعد نسيان .
أى : ولقد تركنا ما فعلناه بقوم نوح عبرة ، فاعتبروا بذلك - أيها الناس - ، وأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة ، لتنجوا من غضبه وعقابه .
قوله : { ولقد تركناها آية } الهاء في قوله : { تركناها } ضمير يعود على ما حل بقوم نوح من إهلاك واستئصال بالتغريق والطوفان . فقد جعل الله ذلك آية للناس أي عبرة لهم فيعتبرون ويتعظون . وقيل : الضمير عائد على السفينة ، فقد أبقاها الله دهرا طويلا حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة { فهل من مدكر } المدكر ، المعتبر ، المتعظ ، الخائف . وأصل مدكر ، مذتكر . قلبت التاء دالا وأدغمت فيها للثقل {[4402]} . يعني : هل من يتذكر ما حل بتلك الأمة الطاغية الظالمة من العقاب بالطوفان والتغريق والاستئصال ، فيعتبر بهم ، ويحذر عقاب ربه أن يحيق به بسبب كفره وفسقه عن دين الله ؟ .