والآن ينتهي هذا الاستعراض في صفحة الكون المنظور ، وتطوى صفحة الخلق الفاني ، وتتوارى أشباح الخلائق جميعا ، ويفرغ المجال من كل حي ، ويتجلى وجه الكريم الباقي ، متفردا بالبقاء ، متفردا بالجلال ؛ وتستقر في الحس حقيقة البقاء ، وهو يشهد ظلال الفناء :
( كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس ، وتخشع الأصوات ، وتسكن الجوارح . . . وظل الفناء يشمل كل حي ، ويطوي كل حركة ، ويغمر آفاق السماوات والأرض . .
ولما أخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من المنافع من الأعيان{[61893]} والمعاني ، واستوفى الأرض بقسميها براً وبحراً ، مضمناً ذلك العناصر الأربعة التي{[61894]} أسس عليها المركبات ، وكان أعجب ما للمخلوق من الصنائع ما في البحر ، وكان راكبه في حكم العدم ، دل على أنه المتفرد بجميع ذلك بهلاك الخلق ، فقال مستأنفاً معبراً بالاسمية الدالة على الثبات وب { من } للدلالة على التصريح تهويلاً بفناء العاقل على فناء غير العاقل{[61895]} بطريق الأولى : { كل من عليها } أي الأرض بقسميها والسماء أيضاً { فان * } أي هالك ومعدوم بالفعل بعد أن كان هو وغيره من سائر ما سوى{[61896]} إليه ، وليس لذلك كله من ذاته إلا العدم ، فهو فان بهذا الاعتبار ، وإن كان موجوداً فوجوده بين عدمين أولهما أنه لم يكن ، وثانيهما أنه يزول ثم هو فيما بين{[61897]} ذلك يتعاوره {[61898]}الإيجاد والإفناء في{[61899]} حين من أحواله وأعراضه وقواه ، وأسباب الهلاك محيطة به حساً ومعنى وهو لا يراها كما أنها محيطة بمن هو في السفينة من فوقه ومن تحته ومن جميع جهاته .
قوله تعالى : { كل من عليها فان 26 ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام 27 فبأي آلاء ربكما تكذبان 28 يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن 29 فبأي آلاء ربكما تكذبان } ذلك إعلان من الله كبير لا يحتمل الظن أو التردد ، يبين الله فيه أن كل من على الأرض من الأحياء صائر إلى الموت والفناء . ومما يعلم من الأدلة الأخرى أن سائر الأحياء في السماوات والأرض صائرون إلى الفناء . كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } قال ههنا : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } .