التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{كُلُّ مَنۡ عَلَيۡهَا فَانٖ} (26)

لما كان قوله : { وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام } [ الرحمن : 24 ] مؤذناً بنعمة إيجاد أسباب النجاة من الهلاك وأسباب السعي لتحصيل ما به إقامة العيش إذ يَسَّر للناس السفن عوناً للناس على الأسفار وقضاء الأوطار مع السلامة من طغيان ماء البحار ، وكان وصف السفن بأنها كالأعلام توسعة في هذه النعمة أتبعه بالموعظة بأن هذا لا يحول بين الناس وبين ما قدره الله لهم من الفناء ، على عادة القرآن في الفُرص للموعظة والتذكير كقوله : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } [ النساء : 78 ] . وفائدة هذا أن لا ينسوا الاستعداد للحياة الباقية بفعل الصالحات ، وأن يتفكروا في عظيم قدرة الله تعالى ويقبلوا على توحيده وطلب مرضاته .

ووقوع هذه الجملة عقب ما عدد من النعم فيه إيماء إلى أن مصير نعم الدنيا إلى الفناء .

والجملة استئناف ابتدائي .

وضمير { عليها } مراد به الأرض بقرينة المقام مثل { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ، أي الشمس ومثله في القرآن وكثير وفي كلام البلغاء .

ومعنى { فانٍ } : أنه صائر إلى الفناء ، فهذا من استعمال اسم الفاعل لزمان الاستقبال بالقرينة مثل { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] .

والمراد ب { من عليها } : الناس لأنهم المقصود بهذه العبر ، ولذلك جيء ب ( من ) الموصولة الخاصة بالعقلاء .

والمعنى : أن مصير جميع من على الأرض إلى الفناء ، وهذا تذكير بالموت وما بعده من الجزاء .