يجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال مَن أوتي كتابه وراء ظهره ، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد ب ( من ) الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول ( مَن ) وهو الجماعة . والمعنى : فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا .
ويجوز أن يكون مفرعاً على قوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [ الانشقاق : 6 ] ، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه . وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإِنكار والتعجيب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإِنسان في قوله : { يا أيها الإنسان إنك كادح } لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات .
ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله : { لتركبن طبقاً عن طبق } [ الانشقاق : 19 ] فيكون مخصوصاً بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ . والضمير أيضاً التفات .
ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القَسَم بها أنها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالإلهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية . والالتفات هو هو .
وتركيب « ما لهم لا يؤمنون » يشتمل على ( مَا ) الاستفهامية مُخبر عنها بالجار والمجرور . والجملةُ بعد { لهم } حال من ( ما ) الاستفهامية .
وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكَر أن يُسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإِنكار مجاز بعلاقة اللزوم ، واللام للاختصاص .
وجملة : { لا يؤمنون } في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسمٌ لَكان منصوباً كما في قوله تعالى : { فما لكم في المنافقين فئتين } [ النساء : 88 ] والحال هي مناط التعجيب ، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصّيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى : { قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله } في سورة البقرة ( 246 ) .
ومتعلق { يؤمنون } محذوف يدل عليه السّياق ، أي بالبعث والجزاء .
ويجوز تنزيل فعل { يؤمنون } منزلة اللازم ، أي لا يتصفون بالإِيمان ، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين ، لظهور الدلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإِشراك به .
والمعنى : التعجيب والإِنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دُعوا إليه وأُنذروا به .
و { لا يسجدون } عطف على { لا يؤمنون } { وإذا قرىء عليهم القرآن } ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فما لهؤلاء المشركين لا يصدّقون بتوحيد الله، ولا يقرّون بالبعث بعد الموت، وقد أقسم لهم ربهم بأنهم راكبون طبقا عن طبق، مع ما قد عاينوا من حججه بحقيقة توحيده...
قال ابن زيد، في قوله" فَمَالَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ": قال: وبهذا الحديث، وبهذا الأمر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الأصل أن كل من اعتقد مذهبا فإنما يعتقده بحجة تقررت عنده أو شبهة اعترضت له، ظنها حجة. فأما أن يعتقده حراما فليس يفعله، فقال الله تعالى في هؤلاء: {فما لهم لا يؤمنون}. أي: أي حجة لهم تمنعهم عن الإيمان بالله تعالى وبرسوله، وتدعوهم إلى الشرك والتزين به؟ ثم قد ذكرنا أن ما خرج مخرج الاستفهام من الله تعالى فحقه أن ينظر ما يقتضي ذلك الكلام من الجواب أن لو كان من مستفهم، فيحمل الأمر عليه، وحق جواب هذا الكلام أن يقول: لا شيء يمنعه عن ذلك. فقوله: {فما لهم لا يؤمنون} أي لا حجة لهم في ما اختاروا من الشرك، وإنما يتدينون به تشهيا وتمنيا، فيكون هذا على النفي في أن لا حجة لهم، أو كأنه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول: سلهم لماذا لا يؤمنون؟ وإذا سألهم لم يجدوا لأنفسهم حجة في الإعراض عن الإيمان، فيرجع الأمر إلى ابتغاء الحجة أيضا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال على وجه التبكيت لهم والتقريع (فما لهم لا يؤمنون) أ: أي شيء لهم لأجله لا يصدقون بالله واليوم الآخر ولا يعترفون بالثواب والعقاب. وقيل: معناه ما لهم لا يؤمنون أي ما وجه الارتياب الذى يصرفهم عن الايمان...
{فما لهم لا يؤمنون} استفهام بمعنى الإنكار، وهذا إنما يحسن عند ظهور الحجة وزوال الشبهات، الأمر ههنا كذلك، وذلك لأنه سبحانه أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها وهو ضوء النهار، ولما بعدها وهو ظلمة الليل، وكذا قوله: {والليل وما وسق} فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور، وعلى تغير أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النوم، وكذا قوله: {والقمر إذا اتسق} فأنه يدل على حصول كمال القمر بعد أن كان ناقصا، إنه تعالى أقسم بهذه الأحوال المتغيرة على تغير أحوال الخلق، وهذا يدل قطعا على صحة القول بالبعث، لأن القادر على تغيير الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال وصفة إلى صفة بحسب المصالح، لا بد وأن يكون في نفسه قادرا على جميع الممكنات عالما بجميع المعلومات. ومن كان كذلك كان لا محالة قادرا على البعث والقيامة، فلما كان ما قبل هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة على صحة البعث والقيامة لا جرم قال على سبيل الاستبعاد: {فما لهم لا يؤمنون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فما لهم} أي وأي شيء لهؤلاء الذين أنزلنا عليهم هذا الكتاب المعجز في أنهم {لا يؤمنون} أي يوقعون الإيمان ويجددونه كل وقت على الاستمرار بكل ما دعا إليه هذا الكتاب الذي خصهم بهم ملك الملوك وقد وضحت الدلائل وقامت البراهين لا سيما دلائل القيامة هل هي إلا واحدة من هذه الأطباق المنتقل إليها لأن من كان اليوم على حالة وغداً على أخرى جدير بأن يعلم أن تدبيره إلى سواه، ومن لم يعلم ذلك فليس لجنونه دواء، ومن علم أن تدبيره إلى سواه علم أن المشيئة في التدبير- إليه لا إلى نفسه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظل هذه اللمحات الأخيرة، والمشاهد والجولات السابقة لها في السورة، يجيء التعجيب من أمر الذين لا يؤمنون. وأمامهم هذا الحشد من موحيات الإيمان ودلائله في أنفسهم وفي الوجود: فما لهم لا يؤمنون؟ و إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟.. أجل! فما لهم لا يؤمنون؟!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتركيب « ما لهم لا يؤمنون» يشتمل على (مَا) الاستفهامية مُخبر عنها بالجار والمجرور. والجملةُ بعد {لهم} حال من (ما) الاستفهامية. وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكَر أن يُسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب...
.وجملة: {لا يؤمنون} في موضع الحال... والحال هي مناط التعجيب...ومتعلق {يؤمنون} محذوف يدل عليه السّياق، أي بالبعث والجزاء. ويجوز تنزيل فعل {يؤمنون} منزلة اللازم، أي لا يتصفون بالإِيمان، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين، لظهور الدلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإِشراك به. والمعنى: التعجيب والإِنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دُعوا إليه وأُنذروا به. و {لا يسجدون} عطف على {لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن} ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومن هنا انتقل كتاب الله إلى التساؤل، باستغراب وتعجب، لماذا يصر الكافرون على عنادهم، ويتمسك الجاحدون بجحودهم، ضاربين صفحا عن الاستجابة لما يحييهم، وكتاب الله يتلى أمامهم، ويقرع أسماعهم، فقال تعالى: {فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون21}، أي: أن كل ما تعرضه الدعوة الإسلامية على خصومها والمكذبين بها من آيات كونية وآيات قرآنية، إنما يدفع إلى الإيمان لا إلى الكفر، وإنما يعين على إيقاظ الضمير وإثارة الشعور، لا على الغفلة والغرور، ومن هنا جاء التساؤل والاستغراب في هذا الباب...