ولهذا فصل الله تعالى العاملين ، ووصف أعمالهم ، فقال : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى } [ أي ] ما أمر به من العبادات المالية ، كالزكوات ، والكفارات والنفقات ، والصدقات ، والإنفاق في وجوه الخير ، والعبادات البدنية كالصلاة ، والصوم ونحوهما .
والمركبة منهما ، كالحج والعمرة [ ونحوهما ] { وَاتَّقَى } ما نهي عنه ، من المحرمات والمعاصي ، على اختلاف أجناسها .
{ فأما } تفريع وتفصيل للإِجمال في قوله : { إن سعيكم لشتى } [ الليل : 4 ] فحرف ( أمَّا ) يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى : مَهما يكن من شيء ، والتفصيل : التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرَد بعضها عن بعض بحالة هي التي يُعتنَى بتمييزها . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } في سورة الفجر ( 15 ) .
والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور ، ولكن جعل التفصيلُ ببيان الساعين بقوله : فأما من أعطى } لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويُلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل ، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة :
وقَد خِفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعلٍ في ذي المَطارة عَاقِل
ومنه قوله تعالى : { ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر } إلخ في سورة البقرة ( 177 ) .
وقوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] الآية ، أي كإيمان من آمن بالله .
وانحصر تفصيل « شتى » في فريقين : فريق ميسَّر لليسرى وفريق ميسَّر للعسرى ، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير ، والتحذير من الشر ، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى : { يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } في سورة الزلزلة ( 6 8 ) . ويجوز أن يجعل تفصيل شتى هم من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى ، ومنْ بخل واستغنى وكذب بالحسنى وذلك عدد يصح أن يكون بياناً لشتّى .
ومَن } في قوله : { من أعطى } الخ وقوله : { من بخل } الخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدِّق بالحسنى . وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالاً من أمية بن خلف وأعتقه ليُنجيه من تعذيب أمية بن خلف ، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوضَ أمية بن خلف ، وهم وهَم .
وقيل : نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي . وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسببُ النزول لا يخصص العموم .
وحُذف مفعول { أعطى } لأن فعل الإِعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض ، يُنزَّل منزلَة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال ( ولذلك يسمى المالُ الموهوب عَطاءَ ) ، والمقصود إعطاء الزكاة .
وكذلك حُذف مفعول { اتقى } لأنه يعلم أن المقدّر اتّقى الله .
وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان ، فالمعنى : فأما من كان من المؤمنين كما في قوله تعالى : { قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين } [ المدثر : 43 44 ] ، أي لم نك من أهل الإيمان .
وكذلك فعل { بَخل } لم يُذكر متعلقه لأنه أريد به البخل بالمال .
و { استغنى } جُعل مقابلاً ل { اتَّقى } فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمْرِ الله ودعوته لأن المصرَّ على الكفر المعرِضَ عن الدعوة يَعُد نفسه غنياً عن الله مكتفياً بولاية الأصنام وقومِه ، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استحباب بمعنى أجاب .
وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال ، فتكون السين والتاء للطلب ، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال : { فأما من أعطى } المال في حق الله عز وجل { واتقى } ونزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق ، رحمة الله عليه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فأما من أعطى واتقى منكم أيها الناس في سبيل الله ، ومن أمَرهُ الله بإعطائه من ماله ، وما وهب له من فضله ، واتقى الله واجتنب محارمه . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قسم تعالى الساعين فذكر أن من أعطى، وظاهر ذلك إعطاء المال ، وهي أيضاً تتناول إعطاء الحق في كل شيء ، قول وفعل ، وكذلك البخل المذكور بعد أن يكون بالإيمان وغيره من الأقوال التي حق الشريعة أن لا يبخل بها...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{ مَنْ أَعْطَى } : حَقِيقَةُ الْعَطَاءِ هِيَ الْمُنَاوَلَةُ ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ يَصِلُ من الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ .
قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّقَى } : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ التَّقْوَى ، وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابٍ مَعْنَوِيٍّ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِقَابِ ، كَمَا أَنَّ الْحِجَابَ الْمَحْسُوسَ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ مَانِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ ...
( أحدهما ) أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعله أبو بكر سواء كان ذلك واجبا أو نفلا ...
( وثانيهما ) : أن قوله : { أعطى } يتناول إعطاء حقوق المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى ، يقال : فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة.
وقوله : { واتقى } فهو إشارة إلى الاحتراز عن كل مالا ينبغي ، وقد ذكرنا أنه هل من شرط كونه متقيا أن يكون محترزا عن الصغائر أم لا في تفسير قوله تعالى : { هدى للمتقين } . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه حقيقة . ولكن هناك حقيقة أخرى . حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعا . وتضم هذه العوالم المتباينة كلها . تضمها في حزمتين اثنتين . وفي صفين متقابلين . تحت رايتين عامتين : ( من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) . . و ( من بخل واستغنى وكذب بالحسنى ) . .
( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى . . فسنيسره لليسرى ) . .
من أعطى نفسه وماله . واتقى غضب الله وعذابه .
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وقد أطلق أعطى ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة ، بل حتى طلاقة الوجه ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المقصود من الإعطاء في قوله : «أعطى » هو الإنفاق في سبيل اللّه ومساعدة المحتاجين . والتأكيد على « التقوى » عقب الإعطاء قد يشير إلى ضرورة تنزيه النية وإخلاص القصد عند الإنفاق ، وإلى الحصول على المال من طريق مشروع ، وإنفاقه في طريق مشروع أيضاً ، وإلى خلوه من المنّ والأذى . . . فكلّ هذه الصفات تجتمع في عنوان التقوى . قال بعض إن «أعطى » إشارة إلى العبادات المالية و«اتقى » إشارة إلى سائر العبادات العملية من أداء الواجبات وترك المحرمات ، غير أن التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، ومع سبب نزولها . ...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.