95- وانتهي أمرهم وزالت آثارهم ، كأنهم لم يقيموا في ديارهم ، ونطق حالهم بما يجب أن يتنبه له ويعتبر به كل عاقل ، ألا هلاكاً لمدْين ، وبُعداً من رحمة الله كما بَعدت ثمود من قبلهم{[98]} .
{ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ْ } أي : كأنهم ما أقاموا في ديارهم ، ولا تنعموا فيها حين أتاهم العذاب .
{ أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ ْ } إذ أهلكها الله وأخزاها { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ْ } أي : قد اشتركت هاتان القبيلتان في السحق والبعد والهلاك .
وشعيب عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته لقومه ، وفي قصته من الفوائد والعبر ، شيء كثير .
منها : أن الكفار ، كما يعاقبون ، ويخاطبون ، بأصل الإسلام ، فكذلك بشرائعه وفروعه ، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد ، وإلى إيفاء المكيال والميزان ، وجعل الوعيد ، مرتبا على مجموع ذلك .
ومنها : أن نقص المكاييل والموازين ، من كبائر الذنوب ، وتخشى العقوبة العاجلة ، على من تعاطى ذلك ، وأن ذلك من سرقة أموال الناس ، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين ، موجبة للوعيد ، فسرقتهم - على وجه القهر والغلبة - من باب أولى وأحرى .
ومنها : أن الجزاء من جنس العمل ، فمن بخس أموال الناس ، يريد زيادة ماله ، عوقب بنقيض ذلك ، وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله : { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ْ } أي : فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم .
ومنها : أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله ، ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة ، وأن ذلك خير له لقوله : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ْ } ففي ذلك ، من البركة ، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق ، وضد البركة .
ومنها : أن ذلك ، من لوازم الإيمان وآثاره ، فإنه رتب العمل به ، على وجود الإيمان ، فدل على أنه إذا لم يوجد العمل ، فالإيمان ناقص أو معدوم .
ومنها : أن الصلاة ، لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين ، وأنها من أفضل الأعمال ، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها ، وتقديمها على سائر الأعمال ، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهي ميزان للإيمان وشرائعه ، فبإقامتها تكمل أحوال العبد ، وبعدم إقامتها ، تختل أحواله الدينية .
ومنها : أن المال الذي يرزقه الله الإنسان - وإن كان الله قد خوله إياه - فليس له أن يصنع فيه ما يشاء ، فإنه أمانة عنده ، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق ، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله ، لا كما يزعمه الكفار ، ومن أشبههم ، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون ، سواء وافق حكم الله ، أو خالفه .
ومنها : أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به ، وأول منته عما ينهى غيره عنه ، كما قال شعيب عليه السلام : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ْ } ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ْ }
ومنها : أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم ، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان ، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها ، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها ، وبدفع المفاسد وتقليلها ، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة .
وحقيقة المصلحة ، هي التي تصلح بها أحوال العباد ، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية .
ومنها : أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح ، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ، ما لا يقدر عليه ، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه ، وفي غيره ، ما يقدر عليه .
ومنها : أن العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين ، بل لا يزال مستعينا بربه ، متوكلا عليه ، سائلا له التوفيق ، وإذا حصل له شيء من التوفيق ، فلينسبه لموليه ومسديه ، ولا يعجب بنفسه لقوله : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُْ } .
ومنها : الترهيب بأخذات الأمم ، وما جرى عليهم ، وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر .
كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى .
ومنها : أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه ، ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده ، ولا عبرة بقول من يقول : " إن التائب إذا تاب ، فحسبه أن يغفر له ، ويعود عليه العفو ، وأما عود الود والحب فإنه لا يعود " فإن الله قال : { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ْ }
ومنها : أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة ، قد يعلمون بعضها ، وقد لا يعلمون شيئا منها ، وربما دفع عنهم ، بسبب قبيلتهم ، أو أهل وطنهم الكفار ، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه ، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين ، لا بأس بالسعي فيها ، بل ربما تعين ذلك ، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان .
فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار ، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية ، لكان أولى ، من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية ، وتحرص على إبادتها ، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم .
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين ، وهم الحكام ، فهو المتعين ، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة ، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَأَن لّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } .
يقول تعالى ذكره : كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه ، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم ، قبل ذلك . و{ لم يغنوا } ، من قولهم : غنيت بمكان كذا : إذا أقمت به ، ومنه قول النابغة :
غَنِيَتْ بذلكَ إذْ هُمُ لي جِيرَةٌ *** مِنْها بعَطْفِ رِسالَةٍ وتَوَدّدِ
وكما حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها } ، قال : يقول : كأن لم يعيشوا فيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مثله .
وقوله : { ألا بُعْدا لِمَدْيَنَ كمَا بَعِدَتْ ثُمودُ } ، يقول تعالى ذكره : ألا أبعد الله مدين من رحمته بإحلال نقمته ، { كما بعدت ثمود } ، يقول : كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإنزال سخطه بهم .
وقوله تعالى : { كان لم يغنوا فيها } الآية ، الضمير في قوله : { فيها } عائد على «الديار » ، و { يغنوا } معناه : يقيمون بنعمة وخفض عيش ، ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل ، وقوله : { ألا } تنبيه للسامع ، وقوله : { بعداً } مصدر ، دعا به ، وهذا كما تقول : سقياً لك ورعياً لك وسحقاً للكافر ونحو هذا ، وفارقت هذه قولهم : سلام عليك ، لأن هذا كأنه إخبار عن شيء قد وجب وتحصل ، وتلك إنما هي دعاء مترجى : ومعنى «البعد » - في قراءة من قرأ «بعِدت » بكسر العين - الهلاك - وهي قراءة الجمهور ومنه قول خرنق بنت هفان : [ الكامل ]
لا يبعدنْ قومي الذين همُ*** سُمُّ العداةِ وآفة الجزرِ{[6487]}
ومنه قول مالك بن الريب : [ الطويل ]
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني*** وأين مكان البعد إلا مكانيا{[6488]}
وأما من قرأ «بعدت » وهو السلمي وأبو حيوة - فهو من البعد الذي ضده القرب ، ولا يدعى به إلا على مبغوض{[6489]} .
أما قوله : { كما بَعدت ثمود } فهو تشبيه البعد الذي هو انقراض مدين بانقراض ثمود . ووجه الشبه التّماثل في سبب عقابهم بالاستئصال ، وهو عذاب الصيحة ، ويجوز أن يكون المقصود من التّشبيه الاستطراد بذمّ ثمود لأنهم كانوا أشدّ جرأة في مناواة رسل الله ، فلمّا تهيأ المقام لاختتام الكلام في قصص الأمم البائدة ناسب أن يعاد ذكر أشدّها كفراً وعناداً فَشُبّهَ هلك مدين بهلكهم .
والاستطراد فَنّ من البديع . ومنه قول حسّان في الاستطراد بالهجاء بالحارث أخي أبي جهل :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كأن لم يغنوا فيها}، يعني: كأن لم يكونوا في الدنيا قط، {ألا بعدا لمدين} في الهلاك، {كما بعدت ثمود}، يعني: كما هلكت ثمود؛ لأن كل واحدة منهما هلكت بالصيحة، فمن ثم اختص ذكر ثمود من بين الأمم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم قبل ذلك.
{ألا بُعْدا لِمَدْيَنَ كمَا بَعِدَتْ ثُمودُ}، يقول تعالى ذكره: ألا أبعد الله مدين من رحمته بإحلال نقمته، {كما بعدت ثمود}، يقول: كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإنزال سخطه بهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) شبه الله تعالى هلاك قوم شعيب وانقطاع آثارهم منها بحالهم لو لم يكونوا فيها، يقال: غنى بالمكان إذا اقام به على وجه الاستغناء به عن غيره واتخاذه وطنا ومأوى يأوي إليه، ولذلك قيل للمنازل المغاني، وإنما شبه حالهم بحال ثمود خاصة، لأنهم أهلكوا بالصيحة كما أهلكت ثمود مثل ذلك مع الرجفة. وقوله "ألا بعدا لمدين "دعاء عليهم بانتفاء الرحمة عنهم كما أهلك الله تعالى ثمود فلم يرحمهم، وجعل انتفاء الرحمة بعدا من الرحمة، لأنه أظهر فيما يتصور فكأنهم يرونها حسرة لأنها لا تصل إليهم منها منفعة لما يحصلون عليه من مضرة الحسرة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} أي هلاكا لهم وبعدا من رحمة الله كبعد الهلاك واللعنة التي عوقبت بها ثمود من قبلهم، فإنهما من جنس واحد وهو الصيحة كما في الآية 67، وسيأتي مثله في سورة الحجر أولا في قوم لوط، وذكرناه في قصتهم هنا، وثانيا في أصحاب الحجر وهم ثمود {فأخذتهم الصيحة مصبحين} [الحجر: 83]، وكذا في سورة المؤمنون بدون تصريح باسمهم {فأخذتهم الصيحة بالحق} [المؤمنون: 41]، وفي سورة القمر {إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر} [القمر: 31]، وتقدم في عذاب ثمود ومدين من سورة الأعراف أنهم أخذتهم الرجفة كما في آيتي [ومثلهما آية 155 في السبعين المختارين من قوم موسى] وسيأتي أيضا في مدين من سورة العنكبوت {فكذبوه فأخذتهم الرجفة} [العنكبوت: 37] الخ، وفي سورة فصلت [حم السجدة] في ثمود {فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون} [فصلت: 17]، وفي سورة الذاريات {فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون} [الذاريات: 44]. فعلم بهذا أن المراد بالصيحة صوت الصاعقة، وفي أن الصاعقة أخذت بني إسرائيل الذين قالوا لموسى: أرنا الله جهرة، ولكن الله تعالى أحياهم عقبها، والرجفة هي الهزة والاضطرابة الشديدة، وهي تصدق باضطراب أبدانهم وأفئدتهم كأرضهم، فالجامع بين هذه الألفاظ أن الله تعالى أرسل على كل من ثمود ومدين صاعقة ذات صوت شديد فرجفوا أو رجفت أرضهم وزلزلت من شدتها وخروا ميتين، فكانت صاعقتهم أشد من صاعقة بني إسرائيل، لأن هذه تربية لقوم نبي في حضرته، وتلك صاعقة كانت عذاب خزي وهوان لمشركين ظالمين معاندين أنجى الله نبي كل منهم ومؤمنيهم قبلها، وأما قول بعض المفسرين: إن الصيحة التي أخذت ثمود ومدين كان صيحة من جبريل عليه السلام فهو من أخبار الغيب التي لا تقبل إلا من نصوص الوحي، ولا نص فتعين أنه من الرجم بالغيب...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وشعيب عليه السلام كان يسمى خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته لقومه، وفي قصته من الفوائد والعبر، شيء كثير:
منها: أن الكفار، كما يعاقبون، ويخاطبون، بأصل الإسلام، فكذلك بشرائعه وفروعه، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد، وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل الوعيد، مرتبا على مجموع ذلك.
ومنها: أن نقص المكاييل والموازين، من كبائر الذنوب، وتخشى العقوبة العاجلة، على من تعاطى ذلك، وأن ذلك من سرقة أموال الناس، وإذا كان سرقتهم في المكاييل والموازين، موجبة للوعيد، فسرقتهم -على وجه القهر والغلبة- من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، فمن بخس أموال الناس، يريد زيادة ماله، عوقب بنقيض ذلك، وكان سببا لزوال الخير الذي عنده من الرزق لقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ْ} أي: فلا تسببوا إلى زواله بفعلكم.
ومنها: أن على العبد أن يقنع بما آتاه الله، ويقنع بالحلال عن الحرام وبالمكاسب المباحة عن المكاسب المحرمة، وأن ذلك خير له لقوله: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ْ} ففي ذلك، من البركة، وزيادة الرزق ما ليس في التكالب على الأسباب المحرمة من المحق، وضد البركة.
ومنها: أن ذلك، من لوازم الإيمان وآثاره، فإنه رتب العمل به، على وجود الإيمان، فدل على أنه إذا لم يوجد العمل، فالإيمان ناقص أو معدوم.
ومنها: أن الصلاة، لم تزل مشروعة للأنبياء المتقدمين، وأنها من أفضل الأعمال، حتى إنه متقرر عند الكفار فضلها، وتقديمها على سائر الأعمال، وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي ميزان للإيمان وشرائعه، فبإقامتها تكمل أحوال العبد، وبعدم إقامتها، تختل أحواله الدينية.
ومنها: أن المال الذي يرزقه الله الإنسان -وإن كان الله قد خوله إياه- فليس له أن يصنع فيه ما يشاء، فإنه أمانة عنده، عليه أن يقيم حق الله فيه بأداء ما فيه من الحقوق، والامتناع من المكاسب التي حرمها الله ورسوله، لا كما يزعمه الكفار، ومن أشبههم، أن أموالهم لهم أن يصنعوا فيها ما يشاءون ويختارون، سواء وافق حكم الله، أو خالفه.
ومنها: أن من تكملة دعوة الداعي وتمامها أن يكون أول مبادر لما يأمر غيره به، وأول منته عما ينهى غيره عنه، كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ْ} ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ْ}.
ومنها: أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة. وحقيقة المصلحة، هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية.
ومنها: أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله، ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه، وفي غيره، ما يقدر عليه.
ومنها: أن العبد ينبغي له أن لا يتكل على نفسه طرفة عين، بل لا يزال مستعينا بربه، متوكلا عليه، سائلا له التوفيق، وإذا حصل له شيء من التوفيق، فلينسبه لموليه ومسديه، ولا يعجب بنفسه لقوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
ومنها: الترهيب بأخذات الأمم، وما جرى عليهم، وأنه ينبغي أن تذكر القصص التي فيها إيقاع العقوبات بالمجرمين في سياق الوعظ والزجر. كما أنه ينبغي ذكر ما أكرم الله به أهل التقوى عند الترغيب والحث على التقوى.
ومنها: أن التائب من الذنب كما يسمح له عن ذنبه، ويعفى عنه فإن الله تعالى يحبه ويوده، ولا عبرة بقول من يقول:"إن التائب إذا تاب، فحسبه أن يغفر له، ويعود عليه العفو، وأما عود الود والحب فإنه لا يعود" فإن الله قال: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ْ}.
ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها، وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم، أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان. فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى، من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم. نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهكذا طُوي سجلّ وطومار حياتهم (كأنّ لم يغنوا فيها). وانطفأ بريق كل شيء، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم. وكما كانت نهاية عاد وثمود وقد حكى عنهما القرآن فهو يقول عن نهاية مدين أيضاً (ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود). وواضح أنّ المقصود من كلمة «مدين» أهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين...
إِنّ أفكار الأنبياء والوقائع التي جرت للأقوام السابقة تستلهم منها الأجيال التي بعدها، لأنّ تجارب حياة أُولئك الأقوام هي التي تمخضت عن عشرات السنين أو مئات السنين... ثمّ نُقلت إِلينا في عدّة صفحات من «التاريخ» وكل فرد منّا يستطيع أن يستلهم العبر في حياته. قصّة هذا النّبي العظيم «شعيب» فيها دروس كثيرة، ومن هذه الدروس ما يلي:
أهمية المسائل الاقتصادية قرأنا في هذه القصّة أنّ شعيباً دعا قومه بعد التوحيد إلى الحق والعدالة في الأُمور المالية والتجارية، وهذا نفسه يدل على أنّ المسائل الاقتصادية في المجتمع لا يمكن تجاوزها وتهميشها كما يدل على أنّ الأنبياء لم يؤمروا بالمسائل الأخلاقية فحسب، بل كانت دعوتهم تشكل «الإِصلاح»... إِصلاح الوضع الاجتماعي غير الجيد، وإِصلاح الوضع الاقتصادي كذلك، حيث كانت هذه الأُمور من أهم الأُمور عند الأنبياء بعد التوحيد.
لا ينبغي التّضحية بالأصالة من أجل التعصب كما قرأنا في هذه القصّة فإنّ أحد العوامل التي دعت إلى سقوط هؤلاء في أحضان الشقاء أنّهم نسوا الحقائق لحقدهم وعدائهم الشخصي، في حين أنّ الإِنسان العاقل والواقعي ينبغي أن يتقبل الحق من كل أحد حتى ولو كان من عدوّه.
الصلاة تدعو إلى التوحيد والتطهير لقد سأل شعيباً قومُه (أصلاتُك تأمُرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) وأن نترك الغش وعدم إِيفاء الميزان حقّه، فلعلهم كانوا يتصورون متساءلين: إِنَّ هذه الأذكار والأدعية ما عسى أن تؤثر في هذه الأُمور؟ على حين أنّنا نعرف أن أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين الصلاة وهذه الأُمور، فإذا كانت الصلاة بمعناها الواقعي أي مع حضور الإنسان بجميع وجوده أمام الله فإنّ هذا الحضور معراج التكامل وسلّم الصعود في تربية روحه ونفسه، والمطهّر لصدأ ذنوبه ورين قلبه وهذا الحضور يقوّي إِرادته ويجعل عزمه راسخاً وينزع عنه غروره وكبرياءه.
النظرة الذاتيّة (الأنانيّة) رمزٌ للجمود! لقد كان قوم شعيب كما عرفنا في الآيات السابقة أفراداً أنانيين و«ذاتيين» إِذ كانوا يتصورون أنفسهم ذوي فهم، وأنّ شعيباً يجهل الأُمور!! وكانوا يسخرون منه ويعدّون كلامه بلا محتوى ويرونه ضعيفاً، وهذه النظرة الضيقة والأنانية صيّرت سماء حياتهم مظلمة ورمت بهم إلى هاوية الهلاك...
تلازم الإِيمان والعمل لا يزال الكثيرون يتصورون أنه يمكن للمسلم أن يكون بالعقيدة وحدها مسلماً حتى وإِن لم يقم بأيّ عمل، وما يزال الكثيرون يريدون من الدين ألاّ يكون مانعاً لرغباتهم وميولهم، ويريدون أن يكونوا أحراراً بوجه مطلق. قصّة شعيب تدلنا على أنّ قومه كانوا يريدون مثل هذا المنهج، لذلك كانوا يقولون له: نحن غير مستعدين أن نترك ما كان عليه السلف من عبادة الأصنام، ولا نفقد حريتنا في التصرف بأموالنا ما نشاء. لقد نسي أُولئك أنّ ثمرة شجرة الإِيمان أساساً هي العمل، وكان نهج الأنبياء أن يصلحوا الانحرافات العمليّة للإِنسان ويسددوا خطواته، وإِلاّ فإنّ شجرة بلا ثمر وورق وفائدة عملية لا تستحق إِلاّ أن تُحرق! نحن اليوم وللأسف نرى بعض المسلمين قد غلب عليهم هذا الطراز من الفكر، وهو أنّ الإِسلام عبارة عن عقائد جافّة لا تتعدّى حدود المسجد، فما داموا في المسجد فهي معهم، وإذا خرجوا ودّعوها فيه!! فلا تجد أثراً لإِسلامهم في السوق أو الإِدارات أو المحيط. إِنّ السير في كثير من الدول الإِسلامية حتى الدول التي كانت مركزاً لانتشار الإِسلام يكشف لنا هذا الواقع المرير، وهو أنّ الإِسلام منحصر في حفنة من «الاعتقادات وعدد من العبادات عديمة الروح» لا تجد فيها أثراً عن المعرفة والعدالة الاجتماعية والنمو الثقافي والأخلاق الإِسلاميّة...
ولكن لحسن الحظ نرى في ضمن هذه الصحوة الإسلامية ولا سيما بين الشباب تحرّك نحو الإِسلام الصحيح والممازجة بين الإِيمان والعمل، فلا تكاد تسمع في هذا الوسط مثل هذا الكلام «ما علاقة الإسلام بأعمالنا؟!» أو أنّ «الإِسلام مرتبط بالقلب لا بالحياة والمعاش» وما إلى ذلك...
الملكية غير المحدودة أساس الفساد لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون أنّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قِبَل مالكيها، ولذلك تعجبوا من شعيب وقالوا له: أمثلك وأنت الحليم الرشيد يمنعنا من التصرف بأموالنا ويسلب حريتنا منها، إِنّ هذا الكلام سواء كان على نحو الحقيقة والواقع، أم كان على نحو الاستهزاء، يَدّل على أنّهم كانوا يرون تحديد التصرّف بالمال دليلا على عدم العقل والدراية، في حين أنّهم كانوا على خطأ كبير في تصورهم هذا... إِذ لو كان الناس أحراراً في التصرّف بأموالهم لعمّ المجتمع الفساد والشقاء، فيجب أن تكون الأُمور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس، وإِلاّ فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الانحراف والفساد.
هدف الأنبياء هو الإِصلاح لم يكن هذا الشعار: (إِنّ أُريدُ إِلا الإِصلاح) شعار شعيب فحسب، بل هو شعار جميع الأنبياء وكل القادة المخلصين، وإِنّ أعمالهم وأقوالهم شواهد على هذا الهدف. فهم لم يأتوا لإِشغال الناس، ولا لغفران الذنوب، ولا لبيع الجنّة، ولا لحماية الأقوياء وتخدير الضعفاء من الناس، بل كان هدفهم الإِصلاح بالمعنى المطلق والوسيع للكلمة... الإِصلاح في الفكر، الإِصلاح في الأخلاق، الإِصلاح في النظم الثقافية والاقتصادية والسياسيّة للمجتمع، والإِصلاح في جميع أبعاد المجتمع. وكان اعتمادهم ودعامتهم على تحقق هذا الهدف هو الله فحسب ولهذا لم يخافوا من التهديدات والمؤامرات كما قال شعيب (وما توفيقي إِلا بالله عليه توكلت وإلِيه أنيب)...