وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي : ثبتها في الأرض . فدحى الأرض بعد خلق السماء ، كما هو نص هذه الآيات [ الكريمة ] . وأما خلق نفس الأرض ، فمتقدم على خلق السماء كما قال تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } إلى أن قال : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وهي دخان فقال لها وللأرض ائتنا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين }{[1353]} فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من الأنوار والأجرام ، والأرض الكثيفة الغبراء ، وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم ، لا بد أن يبعث الخلق المكلفين ، فيجازيهم على أعمالهم ، فمن أحسن فله الحسنى ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه ، ولهذا ذكر بعد هذا القيام الجزاء{[1354]} ، فقال : { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى
( والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها ) . .
ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها ، بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات ، وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة . والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع ، أو ما ينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر
ثم نزل في صورة مطر . وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة . .
وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء ، وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى . والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين ، وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع . وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات .
وقوله : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي : قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها ، وهو الحكيم العليم ، الرءوف بخلقه الرحيم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حَوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد ، فخلق الجبال فألقاها عليها ، فاستقرت فتعجبت الملائكةُ من خلق الجبال فقالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال نعم ، الحديد . قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار . قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء . قالت : يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح . قالت : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال : نعم ، ابن آدم ، يتصدق بيمينه يخفيها من{[29686]} شماله " {[29687]} .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابنُ حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ ، عن علي قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : تخلق عَلَيّ آدم وذريته ، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا ، فأرساها الله بالجبال ، فمنها ما ترون ، ومنها ما لا ترون ، وكان أول قَرَار الأرض كلحم الجزور إذا نحِر ، يختلج لحمه . غريب{[29688]} .
وقوله : والجِبالَ أرْساها يقول : والجبال أثبتها فيها ، وفي الكلام متروك استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره ، وهو فيها ، وذلك أن معنى الكلام : والجبال أرساها فيها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة والجِبالَ أرْساها : أي أثبتها لا تَمِيد بأهلها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمِيّ ، عن عليّ قال : لما خلق الله الأرض قَمَصَت وقالت : تَخْلُق عليّ آدمَ وذرّيته يُلقون عليّ نَتْنهم ، ويعملون عليّ بالخطايا فأرساها الله ، فمنها ما ترون ، ومنها ما لا ترون ، فكان أوّل قرار الأرض كلحم الجزور إذا نُخِر يختلج لحمها .
ونَصب { والجبال } يجوز أن يكون على طريقة نصب { والأرض بعد ذلك دحاها } ويجوز أن يكون عطفاً على { ماءها ومرعاها } ويكون المعنى : وأخرج منها جبالها ، فتكون ( ال ) عوضاً عن المضاف إليه مثل { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] أي مأوى من خافَ مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض .
وإرساء الجبال : إِثباتُها في الأرض ، ويقال : رست السفينة ، إذا شُدّت إلى الشاطىء فوقفت على الأَنْجَرِ ، ويوصف الجبل بالرسوّ حقيقة كما في « الأساس » ، قال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم :
رسَا أصلُه فوق الثرى وسمَا به *** إلى النجم فَرع لا يُنال طويل
وإثبات الجبال : هو رسوخها بتغلْغُل صخورها وعروق أشجارها لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ولولا ذلك لزعزعتها الرياح ، وخُلقت تتخلّلها الصخور والأشجار ولولا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جُعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة .
ومن معنى إرسائها : أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن الراكب من ركوبها إلا بمشقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.