وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف ، رضي جميل . إنه مشهد الجنة ، تقرب من المتقين ، حتى تتراءى لهم من قريب ، مع الترحيب والتكريم :
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد . هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب . ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود . لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد .
والتكريم في كل كلمة وفي كل حركة . فالجنة تقرب وتزلف ، فلا يكلفون مشقة السير إليها ، بل هي التي تجيء : ( غير بعيد ) ! ونعيم الرضى يتلقاهم مع الجنة :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هََذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوّابٍ حَفِيظٍ * مّنْ خَشِيَ الرّحْمََنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مّنِيبٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وأُزْلِفَتِ الجَنّةُ للْمُتّقِينَ غَيرَ بَعِيدٍ وأُدنيت الجنة وقرّبت للذين اتقوا ربهم ، فخافوا عقوبته بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُزْلِفَتِ الجَنّةُ للْمُتّقِينَ يقول : وأدنيت غَيرَ بَعِيدٍ .
عطف { وأزلفت } على { يقول لجهنم } . فالتقدير : يوم أزلفت الجنة للمتقين وهو رجوع إلى مقابل حالةِ الضالّين يومَ يُنفخ في الصور ، فهذه الجملة متصلة في المعنى بجملة { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } [ ق : 21 ] ولو اعتبرت معطوفة عليها لصح ذلك إلا أن عطفها على جملة { يوم يقول لجهنم هل امتلات } [ ق : 30 ] غنية عن ذلك ولا سيما مع طول الكلام .
والإزلاف : التقريب مشتق من الزَلَف بالتحريك وهو القربة ، وقياس فعله أنه كفَرِح كما دل عليه المصدر ولم يُرو في كلامهم ، أي جعلت الجنة قريباً من المتقين ، أي ادْنُوا منها .
والجنة موجودة من قبل وُرود المتَّقين إليها فإزلافها قد يكون بحشرهم للحساب بمقربة منها كرامة لهم عن كلفة المسير إليها ، وقد يكون عبارة عن تيسير وصولهم إليها بوسائل غير معروفة في عادة أهل الدنيا .
وقوله : { غير بعيد } يرجح الاحتمال الأول ، أي غير بعيد منهم وإلاّ صار تأكيداً لفظياً ل { أُزلفت } كما يقال : عاجل غير آجل ، وقوله : { وأضل فرعون قومه وما هدى } [ طه : 79 ] والتأسيس أرجح من احتمال التأكيد .
وانتصب { غير بعيد } على الظرفية باعتبار أنه وصف لظرف مكان محذوف . والتقدير : مكاناً غير بعيد ، أي عن المتقين . وهذا الظرف حال من { الجنة } . وتجريد { بعيد } من علامة التأنيث : إما على اعتبار { غير بعيد } وصفاً لمكاننٍ ، وإمّا جَريٌ على الاستعمال الغالب في وصف بَعيد وقريب إذا أريد البعد والقرب بالجهة دون النسب أن يُجرَّدَا من علامة التأنيث كما قاله الفرّاء أو لأن تأنيث اسم الجنة غير حقيقي كما قال الزجاج ، وإما لأنه جاء على زنة المصدر مثل الزئير والصَّليل ، كما قال الزمخشري ، ومثله قوله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأزلفت الجنة} يعني قربت الجنة {للمتقين} الشرك {غير بعيد} فينظرون إليها قبل دخولها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"وأُزْلِفَتِ الجَنّةُ للْمُتّقِينَ غَيرَ بَعِيدٍ "وأُدنيت الجنة وقرّبت للذين اتقوا ربهم، فخافوا عقوبته بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... إخبارا عن وصف الجنة أنها بحال تُقرّب إلى أهلها، وتُزلَف...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأزلفت} أي قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة {الجنة للمتقين} أي العريقين في هذا الوصف، فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه من الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا، وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم على غير هذا الوصف، فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. ولما كان القرب أمراً نسبياً أكده بقوله: {غير بعيد} أي إزلافاً لا يصح وصفه ببعد...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{وأزلفَت الجنَّة} قربها الله تعالى {للمتَّقين} في ذلك تشريف لهم، إذ لم يقل أزلف المتقون الى الجنة، وهم في قريب منها، أو نقلت من فوق السموات إليهم في أرض المحشر، وهى أوسع منه، ويجوز أن يراد تقريب الحصول والدخول فيها، لا تقريب المكان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والتكريم في كل كلمة وفي كل حركة. فالجنة تقرب وتزلف، فلا يكلفون مشقة السير إليها، بل هي التي تجيء: (غير بعيد)! ونعيم الرضى يتلقاهم مع الجنة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ففي هذه الآيات محلّ البحث تصوير لمشهد آخر، وهو دخول المتّقين الجنّة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في الجنّة، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنّة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنّة...