{ 27-28 } { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم بإهلاك الأمم المكذبين الذين هم حول ديارهم ، بل كثير منهم في جزيرة العرب كعاد وثمود ونحوهم وأن الله تعالى صرف لهم الآيات أي : نوعها من كل وجه ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عماهم عليه من الكفر والتكذيب .
ويختم هذا الشوط بالعبرة الكلية لمصارع من حولهم من القرى من عاد وغير عاد :
( ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى ، وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون . فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة ! بل ضلوا عنهم . وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ) . .
وقد أهلك الله القرى التي كذبت رسلها في الجزيرة . كعاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة . وثمود بالحجر في شمالها . وسبأ وكانوا باليمن . ومدين وكانت في طريقهم إلى الشام . وكذلك قرى قوم لوط وكانوا يمرون بها في رحلة الصيف إلى الشمال .
ولقد نوع الله في آياته لعل المكذبين يرجعون إلى ربهم ويثوبون . ولكنهم مضوا في ضلالتهم ، فأخذهم العذاب الأليم ، ألوانا وأنواعا ، تتحدث بها الأجيال من بعدهم ، ويعرفها الخلف من ورائهم . وكان مشركو مكة يتسامعون بها ، ويرون آثارها غادين رائحين .
وقوله : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى } يعني : أهل مكة ، قد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد ، وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود ، وكانت منازلهم بينهم وبين الشام ، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة ، وكذلك بحيرة قوم لوط ، كانوا يمرون بها أيضا .
وقوله : { وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ } أي : بيناها ووضحناها ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَة }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ الْقُرَىَ وَصَرّفْنَا الاَيَاتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لكفار قريش محذّرهم بأسه وسطوته ، أن يحلّ بهم على كفرهم وَلَقَدْ أهْلَكْنا أيها القوم من القُرَى ما حول قريتكم ، كحِجْرِ ثمود وأرض سدوم ومأرب ونحوها ، فأنذرنا أهلها بالمَثُلات ، وخرّبنا ديارها ، فجعلناها خاوية على عروشها .
وقوله : وَصَرّفْنا الاَياتِ يقول : ووعظناهم بأنواع العظات ، وذكرناهم بضروب من الذّكْر والحجج ، وبيّنا لهم ذلك . كما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَصَرّفْنا الاَياتِ قال بيّناها لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول ليرجعوا عما كانوا عليه مقيمين من الكفر بالله وآياته . وفي الكلام متروك ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه ، وهو : فأبوا إلا الإقامة على كفرهم ، والتمادي في غيهم ، فأهلكناهم ، فلن ينصرهم منا ناصر يقول جلّ ثناؤه : فلولا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقرّبون بها فيما زعموا إلى ربهم منا إذ جاءهم بأسنا ، فتنقذهم من عذابنا إن كانت تشفع لهم عند ربهم كما يزعمون ، وهذا احتجاج من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مُشركي قومه ، يقول لهم : لو كانت آلهتكم التي تعبدون من دون الله تغني عنكم شيئا ، أو تنفعكم عند الله كما تزعمون أنكم إنما تعبدونها ، لتقرّبكم إلى الله زلفى ، لأغنت عمن كان قبلكم من الأمم التي أهلكتها بعبادتهم إياها ، فدفعت عنها العذاب إذا نزل ، أو لشفعت لهم عند ربهم ، فقد كانوا من عبادتها على مثل الذي عليه أنتم ، ولكنها ضرّتهم ولم تنفعهم : يقول تعالى ذكره : بل ضلوا عنهم يقول : بل تركتهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فأخذت غير طريقهم ، لأن عبدتها هلكت ، وكانت هي حجارة أو نحاسا ، فلم يصبها ما أصابها ودعوها ، فلم تجبهم ، ولم تغثهم ، وذلك ضلالها عنهم ، وذلك إفكهم ، يقول عزّ وجلّ هذه الاَلهة التي ضلّت عن هؤلاء الذين كانوا يعبدونها من دون الله عند نزول بأس الله بهم ، وفي حال طمعهم فيها أن تغيثهم ، فخذلتهم ، هو إفكهم : يقول : هو كذبهم الذي كانوا يكذّبون ، ويقولون هؤلاء آلهتنا وما كانوا يفترون ، يقول : وهو الذي كانوا يفترون ، فيقولون : هي تقرّبنا إلى الله زُلفى ، وهي شفعاؤنا عند الله . وأخرج الكلام مخرج الفعل ، والمعنيّ المفعول به ، فقيل : وذلك إفكهم ، والمعنيّ فيه : المأفوك به لأن الإفك إنما هو فعل الاَفك ، والاَلهة مأفوك بها . وقد مضى البيان عن نظائر ذلك قبل ، قال : وكذلك قوله : وَما كانُوا يَفْتَرُونَ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله وَذَلك إفْكُهُمْ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وذلك إفكهم بكسر الألف وسكون الفاء وضم الكاف بالمعنى الذي بيّنا . ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما :
حدثني أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأها «وَذَلِكَ أَفْكَهُمْ » يعني بفتح الألف والكاف وقال : أضلهم . فمن قرأ القراءة الأولى التي عليها قرّاء الأمصار ، فالهاء والميم في موضع خفض . ومن قرأ هذه القراءة التي ذكرناها عن ابن عباس فالهاء والميم في موضع نصب ، وذلك أن معنى الكلام على ذلك ، وذلك صرفهم عن الإيمان بالله .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، القراءة التي عليها قرأة الأمصار لإجماع الحجة عليها .
أتبع ضرب المثل بحال عاد مع رسولهم بأن ذلك المثل ليس وحيداً في بابه فقد أهلك الله أقواماً آخرين من مجاوريهم تُماثل أحوالهم أحوال المشركين ، وذكَّرهم بأن قراهم قريبة منهم يعرفها من يعرفونها ويسمع عنها الذين لم يروها ، وهي قرى ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وسبَأ وقوم تبع ، والجملة معطوفة على جملة { واذكر أخا عاد } [ الأحقاف : 21 ] الخ . وكنِّي عن إهلاك الأقوام بإهلاك قراهم مبالغة في استئصالهم لأنه إذا أهلكت القرية لم يبق أحد من أهلها كما كنّى عنترة بشك الثياب عن شك الجسد في قوله :
ومنه قوله تعالى : { وثيابك فطهّر } [ المدثر : 4 ] .
وتصريف الآيات تنويعها باعتبار ما تدّل عليه من الغرض المقصود منها وهو الإقلاع عن الشرك وتكذيب الرسل ، وأصل معنى التصريف التغيير والتبديل لأنه مشتق من الصرف وهو الإبعاد . وكنّي به هنا عن التبيين والتوضيح لأن تعدد أنواع الأدلة يزيد المقصود وضوحاً . ومعنى تنويع الآيات أنها تارة تكون بالحجة والمجادلة النظرية ، وتارة بالتهديد على الفعل ، وأخرى بالوعيد ، ومرة بالتذكير بالنعم وشكرها . وجملة { لعلهم يرجعون } مستأنفة لإنشاء الترجّي وموقعها موقع المفعول لأجله ، أي رجاء رجوعهم .
والرجوع هنا مجاز عن الإقلاع عمّا هم فيه من الشرك والعناد ، والرجاء من الله تعالى يستعمل مجازاً في الطلب ، أي توسعة لهم وإمهالاً ليتدبروا ويتّعظوا . وهذا تعريض بمشركي أهل مكة فهم سواء في تكوين ضروب تصريف الآيات زيادة على ما صرف لهم من آيات إعجاز القرآن والكلام على ( لعل ) في كلام الله تقدم في أوائل البقرة .