{ إن الله ربي وربكم فاعبدوه } استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد الإلهية الذي ينكره المشركون ، فكما أن الله هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة ، فليكن هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة ، وفي هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله ، وهذا إقراره عليه السلام بأنه عبد مدبر مخلوق ، كما قال { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا } وقال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته } إلى قوله { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } وقوله { هذا } أي : عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله { صراط مستقيم } موصل إلى الله وإلى جنته ، وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم .
ثم حكى القرآن أن عيسى - عليه السلام - قد قرر أن هذه المعجزات الباهرة لن تخرجه عن أن يكون عبداً لله مخلوقا له ، وأن من الواجب على الناس أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً فقال : { إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أى قال عيسى - عليه السلام - داعيا قومه إلى عبادة الله - تعالى - هو الذى خلقنى وخلقكم وهو الذى ربانى ورباكم ، وما دام الأمر كذلك فأخلصوا له العبادة فإن عبادته - سبحانه - وطاعته هي الطريق المستقيم الذى لا اعوجاج فيه ولا التباس .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد بينت لنا بعض المعجزات التى أكرم الله بها عيسى - عليه السلام - كما حكت لنا بعض التوجيهات القويمة ، والإرشادات الحكمية التي نصح بها قومه لكى يسعدوا فى دنياهم وآخرتهم .
والآن ينساق الذهن إلى سؤال هو : ماذا كان موقف بنى إسرائيل منه بعد أن جاءهم بما جاءهم به من بينات وهدايات ؟
وقرأ جمهور الناس { إن الله ربي وربكم } بكسر الألف على استئناف الخبر ، وقرأه قوم «أن الله ربي وربكم » «بفتح الألف قال الطبري : «إن » بدل من «آية » ، في قوله { جئتكم بآية } ، وفي هذا ضعف وإنما التقدير أطيعون ، لأن الله ربي وربكم ، أو يكون المعنى ، لأن الله ربي وربكم فاعبدوه ، وقوله : { هذا صراط مستقيم } إشارة إلى قوله : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } ، وهو لأن ألفاظه جمعت الإيمان والطاعات ، والصراط ، الطريق ، والمستقيم ، الذي لا اعوجاج فيه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وجئتكم بآية من ربكم، تعلمون بها يقينا صدقي فيما أقول، فاتقوا الله يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به، ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم، ربي وربكم فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرّما عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويم، والهدى المتين الذي لا اعوجاج فيه.
وهذه الآية، وإن كان ظاهرها خبرا، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجوه من أهل نجران بإخبار الله عزّ وجلّ، عن أن عيسى كان بريئا مما نسبه إليه من نسبه، غير الذي وصف به نفسه، من أنه لله عبد كسائر عبيده من أهل الأرض إلا ما كان الله جل ثناؤه خصه به من النبوّة والحجج التي آتاه دليلاً على صدقه، كما آتى سائر المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم، والحجة على نبوّتهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{هذا صراط مستقيم} إشارة إلى قوله: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه}، وهو لأن ألفاظه جمعت الإيمان والطاعات. والصراط: الطريق، والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه.
ثم إنه ختم كلامه بقوله {إن الله ربي وربكم} ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل، فيقولون: إنه إله وابن إله، لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه. {فاعبدوه} والمعنى: أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه، ثم أكد ذلك بقوله: {هذا صراط مستقيم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الله} الجامع لصفات الكمال {ربي وربكم} أي خالقنا ومربينا، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد،... {فاعبدوه هذا} أي الذي دعوتكم إليه {صراط مستقيم} أنا وأنتم فيه سواء، لا أدعوكم إلى شيء إلا كنت أول فاعل له، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إلى عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من الكذبة الذين تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على الناس،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وختم ذلك بالتوحيد والاعتراف بالعبودية وقال في ذلك: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}: أي أقرب موصل إلى الله...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إن الله ربي وربكم فاعبدوه} استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل أحد على توحيد الإلهية الذي ينكره المشركون، فكما أن الله هو الذي خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة، فليكن هو معبودنا الذي نألهه بالحب والخوف والرجاء والدعاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، وفي هذا رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله، وهذا إقراره عليه السلام بأنه عبد مدبر مخلوق، كما قال {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} وقال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته} إلى قوله {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} وقوله {هذا} أي: عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله {صراط مستقيم} موصل إلى الله وإلى جنته، وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهو يعلن حقيقة التصور الاعتقادي التي قام عليها دين الله كله: المعجزات التي جاءهم بها لم يجئ بها من عند نفسه. فما له قدرة عليها وهو بشر. إنما جاءهم بها من عند الله. ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله.. ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء -فما هو برب وإنما هو عبد- وأن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب، فلا عبودية إلا لله.. ويختم قوله بالحقيقة الشاملة.. فتوحيد الرب وعبادته، وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به: (هذا صراط مستقيم).. وما عداه عوج وانحراف. وما هو قطعا بالدين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قال: {ربي وربكم} فهو لكونه ربّهم حقيق بالتقوى، ولكونه ربّ عيسى وأرسله تقتضي تقواه طاعةَ رسوله. وقوله: فاعبدوه تفريع على الرُّبوبية، فقد جعل قولَه إنّ الله ربي تعليلاً ثم أصلا للتفريع. وقوله: {هذا صراط مستقيم} الإشارة إلى ما قاله كلِّه أي أنّه الحق الواضح فشبهه بصراط مستقيم لا يضلّ سالكه ولا يتحير...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قرر عيسى-عليه السلام-ان هذه المعجزات الباهرة لا تخرجه عن أنه عبد لله تعالى مخلوق له سبحانه؛ ولذا حكى الله تعالى عنه قوله: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} أي ان الله تعالى خلقني وهو الذي يربني ويكلأني ويحييني،وهو أيضا الذي خلقكم وينميكم ويكلأكم ويحييكم،وإذا كان كذلك فحق علينا ان نعبده وحده ولا نشرك به أحدا سواه،فإن العبادة تكون شكرا لهذه النعمة،وقياما بحقها،وصلاحا لمر الناس في هذه الدنيا.وعبادة الله وحده والاعتراف بربوبيته وألوهيته وحده هي الصراط أي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه،اللهم أهدنا إلى سواء السبيل...
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجادا من عدم، وتقتضي إمدادا من عدم، وتقتضي رعاية قيومية، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول: وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيدا عليكم، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله. {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم}...
ومعنى {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} أي أنه صراط غير ملتويا لأن الطريق إذا التوى؛ انحرف عن الهدف،... {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} ذلك هو منطق عيسى. كان منطقه الأول حينما كان في المهد {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 30]. إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية، وهي قضية القمة، إنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[إنَّ اللّه ربِّي وربُّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ]...
فإذا كانت البداية هي الاعتراف بربوبية اللّه الواحد، فإنَّ حركة الحياة تتجه إلى الآخرة عبر الحياة الدُّنيا، في خطٍّ مستقيم تحكمه القيم الروحية، وتنطلق في تصوّر متوازن لا تتعدّد فيه العبادة تبعاً لتعدّد الآلهة، بل يتوحد فيه الإله وتتّحد فيه العبادة. وإذا كانت البداية هي إنكار الإله في وجوده وفي وحدانيته، فإنَّ حركة الحياة تتثاقل إلى الأرض لتشدّها الأرض إلى شهواتها وغرائزها وأطماعها، وتدخل بها في منعطفاتها الضاربة في خطوط التّيه، وتتنوّع فيها العبادة ليعيش الإنسان فيها عبوديته لكلّ شيء من حوله، ويفقد بذلك حريته في الموقف وفي الإرادة والحياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كثيراً ما يكرّر القول (إنّ الله ربّي وربّكم) و (إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً)، بخلاف ما نراه في الأناجيل المحرّفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنّه كان يستعمل «الأب» في كلامه عن الله. إنّ القرآن يذكر «الرب» بدلاً من ذلك: (إنّ الله ربّي وربّكم). وهذا أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدّعي بألوهيّته. بل لكي يكون التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس (فاعبُدوه) أي اعبدوا الله ولا تعبُدوني. ولذلك نجد أنه لم يكن أحد من الناس يتجرأ في حياة السيّد المسيح (عليه السلام) أن يدعي ألوهيته أو أنه أحد الآلهة، وحتّى بعد عروجه بقرنين من الزمان لم تخالط تعليماته في التوحيد شوائب الشرك، إلاَّ أن التثليث باعتراف أرباب الكنيسة ظهر في القرن الثالث للميلاد...