ولما كان كأنه قيل : ما تلك الآية التي{[17241]} سميتها " آية " بعد ما جئت به من الأشياء الباهرة قال{[17242]} : { إن الله } الجامع لصفات الكمال { ربي وربكم } أي خالقنا ومربينا ، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد ، وقراءة من فتح { إن } أظهر في المراد { فاعبدوه هذا } أي الذي دعوتكم إليه { صراط مستقيم * } أنا وأنتم فيه سواء ، لا أدعوكم إلى شيء إلا كنت أول{[17243]} فاعل{[17244]} له ، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إلى عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من {[17245]}الكذبة الذين{[17246]} تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده{[17247]} فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على الناس ، وجاء بالتحذير منهم وتزييف{[17248]} أحوالهم{[17249]} الأنبياء ، وإلى هذا يرشد قول عيسى عليه السلام فيما سيأتي عن إنجيل يوحنا أن من يتكلم{[17250]} من عنده إنما يطلب المجد لنفسه ، فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم ؛ وإلى مثل ذلك أرشدت التوراة فإنه جعل العلامة على صدق الصادق وكذب الكاذب الدعوة ، فمن كانت دعوته إلى الله سبحانه وتعالى وجب تصديقه ، من كذبه هلك ، ومن دعا{[17251]} إلى غيره وجب تكذيبه ، ومن صدقه هلك ؛ قال في السفر الخامس منها : وإذا دخلتم الأرض التي{[17252]} يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ، ولا يوجد فيكم من يقبر{[17253]} {[17254]}ابنه أو{[17255]} ابنته في النار نذراً للأصنام ، ولا من{[17256]} يطلب تعليم العرافين ، ولا من يأخذ بالعين ، ولا يوجد فيكم من يتطير{[17257]} طيرة{[17258]} ، ولا ساحر ، ولا من يرقى رقية ، ولا من ينطلق إلى{[17259]} العرافين{[17260]} والقافة{[17261]} فيطلب إليهم ويسألهم عن الموتى ، لأن كل{[17262]} من يعمل هذه الأعمال هو نجس بين يدي الله ربكم ، ومن أجل هذه النجاسة يهلك الله هذه الشعوب من بين أيديكم ؛ ولكن كونوا متواضعين مخبتين أمام الله ربكم{[17263]} ، لأن هذه الشعوب التي{[17264]} ترثونها{[17265]} كانت{[17266]} تطيع العرافين والمنجمين ، فأما{[17267]} أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم ، بل يقيم لكم نبياً{[17268]} من إخوتكم مثلي ، فأطيعوا ذلك النبي كما أطعتم الله ربكم في حوريب{[17269]} يوم الجماعة{[17270]} وقلتم : لا نسمع{[17271]} صوت الله ربنا ولا نعاين{[17272]} هذه النار العظيمة لئلا{[17273]} نموت ، فقال الرب : ما أحسن ما تكلموا ! سأقيم لهم{[17274]} نبياً من إخوتهم مثلك وأجري قولي فيه ويقول لهم ما آمره به ، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم{[17275]} باسمي أنا أنتقم منه ، فأما النبي الذي{[17276]} يتكلم ويتجرأ باسمي ويقول ما لم آمره أن يقوله ويتكلم بأسماء الآلهة{[17277]} الأخرى ليقتل{[17278]} ذلك النبي ، وإن قلتم في قلوبكم : كيف لنا أن نعرف{[17279]} القول الذي لم يقله الرب ، إذا تكلم ذلك النبي باسم الرب فلم يكمل قوله : ولم يتم فلذلك القول لم يقله الرب{[17280]} ولكن تكلم ذلك النبي جراءة وصفاقة وجه{[17281]} ، فلا تخافوه ولا تفزعوا{[17282]} منه ؛ وقال قبل ذلك بقليل{[17283]} : وإذا أهلك الله الشعوب التي تنطلقون إليها وأبادهم{[17284]} من بين أيديكم{[17285]} وورثتموهم وسكنتم أرضهم ، احفظوا ، لا تتبعوا آلهتهم من بعد ما يهلكهم{[17286]} الله من بين أيديكم ، ولا تسألوا عن آلهتهم{[17287]} ولا تقولوا : كيف كانت هذه الشعوب تعبد{[17288]} آلهتها حتى نفعل نحن مثل{[17289]} فعلها ؟ {[17290]}ولا تفعلوا مثل فعالها{[17291]} أمام الله ربكم ، لأنهم عملوا بكل ما أبغض الله وأحرقوا بنيهم وبناتهم لآلهتهم ، ولكن القول الذي آمركم به إياه احفظوا وبه اعملوا ! لا تزيدوا ولا تنقصوا{[17292]} منه شيئاً فإن قام بينكم نبي أو من يفسر أحلاماً وعمل آية أو عجيبة ويقول : أقبلوا بنا نعبد الآلهة الأخرى التي لا تعرفونها ونتبعها - لا يقبل قول ذلك النبي وصاحب الأحلام ، لأنه إنما يريد ، {[17293]}أن يجربكم ليعلم هل تحبون الله ربكم ، احفظوا وصاياه واتقوا{[17294]} واسمعوا قوله {[17295]}واعبدوه والحقوا به ، فأما ذلك النبي وذلك الذي تحلّم الأحلام فليقتل ، لأنه نطق بإثم{[17296]} أمام الله{[17297]} ربكم{[17298]} الذي أخرجكم من أرض{[17299]} مصر وخلصكم من العبودية ، فأراد أن يضلكم عن الطريق الذي أمركم الله ربكم أن تسيروا فيه ، واستأصلوا الشر من بينكم ، وإن شوقك أخوك ابن أمك وأبيك أو ابنتك أو حليلتك أو صديقك ويقول لك : هلم{[17300]} بنا نتبع الآلهة الأخرى التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب التي حولكم - القريبة منكم والبعيدة - ومن أقطار الأرض إلى أقصاها - لا تقبل{[17301]} قوله ولا تطعه{[17302]} ولا تشفق عليه ولا ترحمه ولا تلتمّ{[17303]} عليه ولا تتعطف{[17304]} عليه ، ولكن اقتله قتلاً ، وابدأ به أنت قتلاً ، ثم يبدأ به جميع الشعوب ، وارجموه{[17305]} بالحجارة وليمت ، لأنه أراد أن يضلك عن عبادة الله ربك{[17306]} الذي أخرجك من أرض مصر وخلصك من العبودية ، ويسمع{[17307]} بذلك جميع{[17308]} بني إسرائيل ، ويفزعون فلا يعودوا أن يعملوا مثل هذا العمل السوء{[17309]} بينكم ، وإذا سمعتم أن في قرية من القرى التي أعطاكم الله{[17310]} قوماً قد ارتكبوا خطيئة وأضلوا أهل قريتهم وقالوا لهم{[17311]} : {[17312]}ننطلق فنعبد{[17313]} آلهة أخرى لم تعرفوها ، ابحثوا نعماً وسلوا حسناً ، إن كان القول الذي بلغكم يقيناً وفعلت هذه النجاسة في تلك القرية اقتلوا أهل تلك القرية بالسيف ، واقتلوا كل من فيها من النساء والصبيان والبهائم بالسيف ، واجمعوا جميع{[17314]} نهبها خارج القرية وأحرقوا القرية بالنار وأحرقوا كل نهبها أمام الله ربكم ، وتصير القرية تلاً خراباً إلى الأبد ولا تبنى أيضاً ، ولا يلصق{[17315]} بأيديكم من خرابها شيء ليصرف الرب غضبه عنكم ويعطف عليكم ويفيض رحمته عليكم ويجيبكم{[17316]} ويرحمكم ويكثركم كما قال لآبائكم ؛ هذا إن أنتم سمعتم قول الله ربكم ، وحفظتم وصاياه التي أمرتكم بها اليوم ، وعملتم الحسنات أمام الله ربكم ، فإذا فعلتم هذا صرتم لله ربكم ، لا تأثموا ولا تصيروا{[17317]} شبه{[17318]} الوحش ولا تخدشوا{[17319]} وجوهكم وبين أعينكم على الميت ، لأنكم شعب طاهر لله ربكم ، وإياكم اختار الله ربكم أن تكونوا له{[17320]} شعباً حبيباً أفضل من جميع شعوب الأمم - انتهى .
فقد تبين من هذا كله أن عيسى عليه الصلاة والسلام مصدق للتوراة في الدعاء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وأن الآية الكبرى{[17321]} على صدق النبي الحق اختصاصه الله تعالى بالدعوة وتسويته بين نفسه وجميع من يدعوه في الإقبال عليه والتعبد له والتخشع لديه ، وأن الآية على كذب الكاذب دعاؤه إلى غير الله ؛ وفي ذلك وأمثاله مما سيأتي عن الإنجيل في سورة النساء تحذير من الدجال وأمثاله ، فثبت أن المراد بالآية في هذه الآية ما قدمته{[17322]} من الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى رب الكل والأمر بعبادته{[17323]} ، وهذا كما يأتي من أمر الله سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم }[ آل عمران : 64 ] إلى قوله :{ ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله{[17324]} }[ آل عمران : 64 ] .