ثم بين - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف فقال :
{ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار } .
أى : وكما حقت كلمة ربك - أيها الرسول الكريم - ووجبت بإهلاك الأمم الماضية التى كذبت أنبياءها ، وجعلهم وقودا للنار ، فكذلك تكون سنتنا مع المكذبين لك من قومك ، إذا ما استمروا فى تكذيبهم لك ، ولم يعودوا إلى طريق الحق .
فالآيات الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير لمشركى قريش من الاستمرار فى غيهم .
وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «كذلك سبقت كلمة » . والمعنى : كما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم فكذلك حقت كلماتي على جميع الكفار من تقدم منهم ومن تأخر أنهم أهل النار وسكانها .
وقرأ نافع وابن عامر : «كلمات » على الجمع ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وابن نصاح وقرأ الباقون : «كلمة » على الإفراد وهي للجنس ، وهي قراءة أبي رجاء وقتادة ، وهذه كلها عبارة عن ختم القضاء عليهم .
الواو عاطفة على جملة { فكيف كان عِقَاب } [ غافر : 5 ] ، أي ومثل ذلك الحَقّ حقت كلمات ربك فالمشار إليه المصدَر المأخوذ من قوله : { حَقَّت كَلِماتُ رَبك } على نحو ما قرر غير مرة ، أولاها عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) ، وهو يفيد أن المشبه بلغ الغاية في وجه الشبه حتى لو أراد أحد أن يشبهه لم يشبهه إلا بنفسه .
ولك أن تجعل المشار إليه الأخْذَ المأخوذ من قوله : { فأخذتهم } [ غافر : 5 ] ، أي ومثل ذلك الأخذ الذي أخذ الله به قوم نوح والأحزابَ من بعدهم حقت كلمات الله على الذين كفروا ، فعلم من تشبيه تحقق كلمات الله على الذين كفروا بذلك الأخذِ لأن ذلك الأخذ كان تحقيقاً لكلمات الله ، أي تصديقاً لما أخبرهم به من الوعيد ، فالمراد بالذين كفروا } جميع الكافرين ، فالكلام تعميم بعد تخصيص فهو تذييل لأن المراد بالأحزاب الأمم المعهودة التي ذكرت قصصها فيكون { الذينَ كَفَروا } أعم . وبذلك يكون التشبيه في قوله : { وكذلك حقت كلمات ربك } جارياً على أصل التشبيه من المغايرة بين المشبه والمشبه به ، وليس هو من قبيل قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] ونظائره .
ويجوز أن يكون المراد ب { الذين كفروا } عين المراد بقوله آنفاً : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر : 4 ] أي مثل أخذ قوم نوح والأحزاب حقت كلمات ربك على كفار قومك ، أي حقت عليهم كلمات الوعيد إذا لم يقلعوا عن كفرهم .
و ( كلمات الله ) هي أقواله التي أوحى بها إلى الرسل بوعيد المكذبين ، و { على الذين كفروا } يتعلق ب { حقت .
وقوله : { أنهم أصحابُ النَّار } يجوز أن يكون بدلاً من { كلمات ربك } بدلاً مطابقاً فيكون ضمير { أنَّهُم } عائد إلى { الذين كفروا } ، أي حق عليهم أن يكونوا أصحاب النار ، وفي هذا إيماء إلى أن الله غير معاقب أمة الدعوة المحمدية بالاستئصال لأنه أراد أن يخرج منهم ذرية مؤمنين .
ويجوز أن يكون على تقدير لام التعليل محذوفةٍ على طريقة كثرة حذفها قبل ( أنَّ ) . والمعنى : لأنهم أصحاب النار ، فيكون ضمير { أنَّهُم } عائداً إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا .
وقرأ الجمهور { كلمة ربك } بالإِفراد . وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع ، والإِفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينة أن الضمير المجرور ب ( على ) تعلق بفعل { حَقَّت } وهو ضمير جمع فلا جرم أن تكون الكلمة جنساً صادقاً بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعَّدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وكذلك {حقت كلمت ربك}: وجبت كلمة العذاب من ربك.
{على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} حين قال لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص:85].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكما حقّ على الأمم التي كذّبت رسلها التي قصصت عليك يا محمد قصصها عذابي، وحلّ بها عقابي بتكذيبهم رسلهم، وجدالهم إياهم بالباطل، ليدحضوا به الحقّ، كذلك وجبت كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك، الذين يجادلون في آيات الله.
وقوله:"أنّهُمْ أصحَابُ النّارِ"... بمعنى: وكذلك حقّ عليهم عذاب النار، الذي وعد الله أهل الكفر به.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وجه التشبيه في قوله "وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا "أن الكفار يعاقبون في الآخرة بالنار، كما عوقبوا في الدنيا بعذاب الاستئصال إلا أنهم في الآخرة على ملازمة النار والحصول فيها، وقد حقت الكلمة عليهم في الأمرين جميعا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا انختم على عبدٍ حُكْمُ الله بشقاوته فلا تنفعه كَثْرَةُ ما يورَدُ عليه من النُّصح. والله على أمره غالبٌ. ومَنْ أَسَرَتْه يَدُ الشقاوة فلا يُخَلِّصُه مِنْ مخالبها جُهْدٌ ولا سعاية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فحقت عليهم كلمة الله لأخذهم على هذا الجدال إنهم أصحاب النار التي جادلوا فيها، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ، فلم يقدروا على التفصي من حقوقها {حقت} بالأخذ والنكال.
{كلمت} وصرف الكلام إلى صفة الإحسان تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وبشارة له بالرفق بقومه فقال: {ربك} أي المحسن إليك بجميع أنواع الإحسان فهو لا يدع أعداءك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
متى حقت كلمة الله على أحد فقد وقعت، وقضي الأمر، وبطل كل جدال، وهكذا يصور القرآن الحقيقة الواقعة، حقيقة المعركة بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، وبين الدعاة إلى الله الواحد والطغاة الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق. وهكذا نعلم أنها معركة قديمة بدأت منذ فجر البشرية. وأن ميدانها أوسع من الأرض كلها، لأن الوجود كله يقف مؤمناً بربه مسلماً مستسلماً، ويشذ منه الذين كفروا يجادلون في آيات الله وحدهم دون سائر هذا الكون الكبير. ونعلم كذلك نهاية المعركة -غير المتكافئة- بين صف الحق الطويل الضخم الهائل وشرذمة الباطل القليلة الضئيلة الهزيلة، مهما يكن تقلبها في البلاد، ومهما يكن مظهرها من القوة والسيطرة والمتاع!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الواو عاطفة على جملة {فكيف كان عِقَاب} [غافر: 5]، أي ومثل ذلك الحَقّ حقت كلمات ربك فالمشار إليه المصدَر المأخوذ من قوله: {حَقَّت كَلِماتُ رَبك} على نحو ما قرر غير مرة، أولاها عند قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} في سورة البقرة (143)، وهو يفيد أن المشبه بلغ الغاية في وجه الشبه حتى لو أراد أحد أن يشبهه لم يشبهه إلا بنفسه.
ولك أن تجعل المشار إليه الأخْذَ المأخوذ من قوله: {فأخذتهم}، أي ومثل ذلك الأخذ الذي أخذ الله به قوم نوح والأحزابَ من بعدهم حقت كلمات الله على الذين كفروا، فعلم من تشبيه تحقق كلمات الله على الذين كفروا بذلك الأخذِ؛ لأن ذلك الأخذ كان تحقيقاً لكلمات الله، أي تصديقاً لما أخبرهم به من الوعيد، ف {المراد بالذين كفروا} جميع الكافرين، فالكلام تعميم بعد تخصيص فهو تذييل لأن المراد بالأحزاب الأمم المعهودة التي ذكرت قصصها فيكون {الذينَ كَفَروا} أعم. وبذلك يكون التشبيه في قوله: {وكذلك حقت كلمات ربك} جارياً على أصل التشبيه من المغايرة بين المشبه والمشبه به، وليس هو من قبيل قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] ونظائره.
{أنهم أصحابُ النَّار} يجوز أن يكون بدلاً من {كلمات ربك} بدلاً مطابقاً فيكون ضمير {أنَّهُم} عائد إلى {الذين كفروا}، أي حق عليهم أن يكونوا أصحاب النار، وفي هذا إيماء إلى أن الله غير معاقب أمة الدعوة المحمدية بالاستئصال لأنه أراد أن يخرج منهم ذرية مؤمنين.
ويجوز أن يكون على تقدير لام التعليل محذوفةٍ على طريقة كثرة حذفها قبل (أنَّ). والمعنى: لأنهم أصحاب النار، فيكون ضمير {أنَّهُم} عائداً إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا.
وقرأ الجمهور {كلمة ربك} بالإِفراد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع، والإِفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينة أن الضمير المجرور ب (على) تعلق بفعل {حَقَّت} وهو ضمير جمع؛ فلا جرم أن تكون الكلمة جنساً صادقاً بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعَّدة.
(حَقَّتْ) أي: وجبتْ وثبتت ولم يأت واقع لينقضها، لماذا؟ لأن الذي قالها يعلم ما يكون بعدها، وخاصة إذا كان الذين يعملون لهم اختيار في أنْ يعملوا أو لا يعملوا.
فالله تعالى قالها وحكم بها عليهم وهم في بحبوحة الدنيا وفي زمن الاختيار، ومع ذلك لم يخالفوها، وهنا موضع العظمة في كلام الله، العظمة أنْ أتحداك في أمر لك فيه اختيار، ومع ذلك لا تخرج عما حكمت عليك به.
ومثل هذا قلناه في قوله تعالى في شأن أبي لهب وزوجته: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
فالحق سبحانه وتعالى حكم عليهما بالكفر، وأن مصيرهما النار مع أن الإيمان والكفر أمر وكَلَ اللهُ اختياره للعبد بدليل أن أمثال أبي لهب من كفار مكة أسلموا مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة وغيرهم، وكان في إمكان أبي لهب بعد أن نزلت هذه السورة أنْ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يقولها ولو نفاقاً، لكن لم يحدث وصدق فيه قول الله تعالى.
وهذه المسألة شرحها الحق سبحانه في قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ..} [الأنفال: 24] فقلبه يُحدِّثه بالشيء إنما العظمة الإلهية تحوله عنه.
لذلك قال تعالى لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ..} [القصص: 7] فالقياس العقلي لا يقبل هذا الحل وأي عاقل يقول: إن المرأة إذا خافت على وليدها تلقيه في البحر؟ لكن هنا أم موسى لم تسمع لصوت العقل ولا تأثرتْ بعاطفتها نحو وليدها، إنما سمعت لقول ربها، سمعت لهذا الوارد الأعلى الذي لا يعارضه أيُّ وارد شيطاني أسفل فلم تتردد أبداً في أنْ تلقي بوليدها في البحر، لأن الله تعالى حَالَ بينها وبين عاطفة قلبها.
كذلك الحال في قصة سيدنا موسى مع فرعون، فقد أخبر الكهنة فرعون أن زوال مُلْكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل، فماذا فعل فرعون -لتعلموا كيف كانت عقلية الذين ادَّعَوْا الألوهية، وكيف أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه، ماذا فعل فرعون؟ راح يبحث عن الأطفال ويقتلهم، وهو لا يعلم أن الله يدَّخر له هذا الغلام فيأتيه ويطرق بابه وهو في مهده على الهيئة التي تعرفونها، ومع ذلك يطمئن إليه ويتخذه ولداً له، وتقول زوجته {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ..} [القصص: 9] فيأخذه ويُربِّيه في بيته، هذا معنى {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ..} [الأنفال: 24].
إذن: فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6] ما حقتْ عليهم بقهر وجبروت، إنما حقَّتْ عليهم باختيار منهم، والحق سبحانه وتعالى بعلمه الأزلي علم اختيارهم، فحكم عليهم بسابق علمه فيهم، ولا يمكن أنْ يأتي واقعٌ يخالف هذا الحكم لأن المتكلم بهذا الكلام هو الله.
وسبق أنْ أوضحنا أن الكلمة تُطلق على اللفظ المفرد، وتُطلق على الكلام ومن ذلك قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا..} [المؤمنون: 100] وقوله سبحانه في الذين قالوا {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً..} [يونس: 68] قال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] ونحن نسمي الخطبة الطويلة كلمة.
فالكلمة التي حقَّتْ ووجبتْ وثبتتْ ليسَت مطلق كلمة، إنما هي {كَلِمَةُ رَبِّكَ..} [غافر: 6] وكلمة الله لا بدَّ أنْ تحقّ ولا بدَّ أنْ تثبت، وما كان الله تعالى ليقول كلمة، ثم يأتي واقع الأحداث ويكذبها، والكلمة التي حقّتْ على الذين كفروا هي {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6].