كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض ، وكان يكون بينهما من الحروب والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة .
وكانت الفرس مشركين يعبدون النار ، وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والإنجيل وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس ، وكان المشركون -لاشتراكهم والفرس في الشرك- يحبون ظهور الفرس على الروم .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .
قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .
وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .
فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .
وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .
أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .
قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .
وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .
أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .
وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .
أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .
والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .
وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .
{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .
قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .
وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .
ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .
وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وهم أبناء عم بني إسرائيل ، ويقال لهم : بنو الأصفر . وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة يافث بن نوح ، أبناء {[22746]} عم الترك . وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة ، ويقال لها : المتحيرة ، ويصلون إلى القطب الشمالي ، وهم الذين أسسوا دمشق ، وبنوا معبدها ، وفيه محاريب إلى جهة الشمال ، فكان{[22747]} الروم على دينهم إلى مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له : قيصر . فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس ، وأمه مريم الهيلانية الشدقانية{[22748]} من أرض حران ، كانت قد تنصرت قبله ، فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفا ، فتابعها - يقال : تَقِيَّة - واجتمعت به النصارى ، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافا [ كثيرًا ]{[22749]} منتشرا متشتتا لا ينضبط ، إلا أنه اتفق من جماعتهم{[22750]} ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين - يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغَيَّروا دين المسيح ، عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه . وفصلوا إلى المشرق{[22751]} واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير . واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس{[22752]} والغطاس ، وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساقسة ، ثم الشمامسة . وابتدعوا الرهبانية . وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه{[22753]} اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاثة{[22754]} محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك .
ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف ، ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة " . {[22755]} والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده ، حتى كان آخرهم هرقل . وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم ، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا ، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي ، وجميع بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف . وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رياسة العجم وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار . فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره ، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية . فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك لحصانتها ؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من{[22756]} ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك . فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ، ويشترط عليه ما شاء . فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا{[22757]} ، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة . فطاوعه قيصر ، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشْره ، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه ، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية ، جمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته ، في جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار ، إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري . فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام . فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط ، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة ، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن ، وهي كرسي مملكة كسرى ، فقتل من بها ، وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق رأس ولده ، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخُذه . فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ، واشتد حنقه على البلد ، فاشتد{[22758]} في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك . فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون ، التي لا سبيل{[22759]} لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها ، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها ، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في بعض الجيش ، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه ، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا ، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر ، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك ، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس ، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض ، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده ، ودخلوا القسطنطينية . وكان ذلك يوما مشهودًا عند النصارى ، وبقي كسرى وجيوشه {[22760]} حائرين لا يدرون ماذا يصنعون . لم يحصلوا على بلاد قيصر ، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم ، وسبوا ذراريهم ونساءهم . فكان هذا من غَلب الروم فارسَ ، وكان ذلك بعد تسع{[22761]} سنين من غلب الفرس للروم{[22762]} .
وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى ، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز .
وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس ، فالله{[22763]} أعلم .
ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين ، وهي تسع ؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع . وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي ، وابن جرير وغيرهما ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي ، عن الزهري ، عن عبُيَد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة{[22764]} { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟ " ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه{[22765]} .
وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن عمرو : أنه قال ذلك{[22766]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن أهل فارس غلبوا على الروم {في أدنى الأرض} يعني أرض الأردن وفلسطين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"غُلِبَتِ الرّومِ فِي أدْنَى الأرْضِ" اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: غُلِبَتِ الرّومُ (بضمّ الغين)، بمعنى: أن فارس غَلَبت الروم. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن الحسن الجفريّ، عن سليط، قال: سمعت ابن عمر يقرأ «الم غَلَبَتِ الرّومُ» فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، على أيّ شيء غَلَبوا؟ قال: على ريف الشام.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره "الم غُلِبَتِ الرّومُ "-بضم الغين-، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: غلبت فارس الروم "فِي أدْنَى الأرْضِ" من أرض الشام إلى أرض فارس.
"وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبهِمْ" يقول: والروم من بعد غلبة فارس إياهم "سَيَغْلِبُونَ" فارس "فِي بِضْعِ سنِينَ لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ" غلبتهم فارس "وَمِنْ بَعْدُ" غلبتهم إياها، يقضي في خلقه ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحبّ إظهاره عليه.
"وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ" يقول: ويوم يغلِب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين، ونُصْرة الروم على فارس.
"يَنْصُرُ اللّهُ" تعالى ذكره "مَنْ يَشاءُ" من خلقه، على من يشاء، وهو نُصرة المؤمنين على المشركين ببدر، "وَهُوَ العَزِيزُ" يقول: والله الشديد في انتقامه من أعدائه، لا يمنعه من ذلك مانع، ولا يحول بينه وبينه حائل "الرّحِيمُ" بمن تاب من خلقه، وراجع طاعته أن يعذّبه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر أهل التأويل أنه إنما يذكر هذا لأن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة؛ يقولون: إن الروم أهل الكتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فستغلبكم كما غلبت فارس الروم. فأنزل الله هذه الآيات: {الم} {غلبت الروم} {في أدنى الأرض} الآية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله {غُلِبَتِ الرُّومُ}: سُرَّ المسلمون بظفر الروم على العجم -وإن كان الكفر يجمعهم- إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الآية.. فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحُزنُه واهتمامه لدين الله؟...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أثبت سبحانه أن له جميع الأمر وأنه يسرُّ المؤمنين بنصرة من له دين صحيح الأصل، وخذلان أهل العراقة في الباطل والجهل، وجعل ذلك على وجه يفيد نصر المؤمنين على المشركين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين...
وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية.
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان. ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر. مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان.
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. منذ حوالي أربعة عشر قرنا. ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة، وحقيقة القضية؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة، مهما تنوعت العلل والأسباب.
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله، كما تبدو في قولة أبي بكر -رضي الله عنه- في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه؛ فما يزيد على أن يقول: صدق. ويراهنونه فيراهن وهو واثق. ثم يتحقق وعد الله، في الأجل الذي حدده: (في بضع سنين).. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله. وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل.
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر، من قول الله سبحانه: (لله الأمر من قبل ومن بعد).. والمسارعة برد الأمر كله لله. في هذا الحادث وفي سواه. وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف. فالنصر والهزيمة، وظهور الدول ودثورها، وضعفها وقوتها. شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال، مرده كله إلى الله، يصرفه كيف شاء، وفق حكمته ووفق مراده. وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة، التي ليس لأحد عليها من سلطان؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله. و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم.
(ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض. وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)..
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)..
ولقد صدق وعد الله، وفرح المؤمنون بنصر الله.
(ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم)..
فالأمر له من قبل ومن بعد. وهو ينصر من يشاء. لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال. فهي ترد الأمر كله إلى الله. ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ودخل يصلي قائلا: توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعقلها وتوكل". فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله.
(ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم)..
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية، أي نحن نعلم بأن الروم غُلبت، فلا يَهْنِكْم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنّا نعلم أنهم سيَغلبون مَنْ غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلَباً...