ثم أكد - سبحانه - هذا التهديد والوعيد فقال : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
والفاء هنا متفرعة على ما سبق تأكيده في قوله { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ . . . } إذ في هذا اليوم يكون سؤالهم .
والواو للقسم ، أى : فوحق ربك - أيها الرسول الكريم - الذي خلقك فسواك فعدلك ، لنسألن هؤلاء المكذبين جميعًا ، سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت ، عما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال قبيحة : وعما كانوا يقولونه من أقوال فاسدة ، ثم لننزلن بهم جميعًا العقوبة المناسبة لهم .
فالمقصود من هذه الآية الكريمة زيادة التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيد التهديد للمشركين .
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } دُوينك{[16274]} النفر الذين قالوا : ذلك لرسول الله .
وقال عطية العوفي ، عن ابن عمر{[16275]} في قوله : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال : عن لا إله إلا الله .
وقال عبد الرزاق . أنبأنا الثوري ، عن ليث - هو ابن أبي سليم - عن مجاهد ، في قوله : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال : عن{[16276]} لا إله إلا الله{[16277]}
وقد روى الترمذي ، وأبو يعلى الموصلي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث شريك القاضي ، عن ليث بن أبي سليم ، عن بَشِير{[16278]} بن نَهِيك ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ قال ]{[16279]} عن لا إله إلا الله{[16280]}
ورواه ابن إدريس ، عن ليث ، عن بشير{[16281]} عن أنس موقوفا{[16282]}
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك ، عن هلال ، عن عبد الله بن عُكَيم قال : قال عبد الله - هو ابن مسعود - : والذي لا إله غيره ، ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، فيقول : ابن آدم ، ماذا{[16283]} غرك مني بي ؟ ابن آدم ، ماذا عملتَ فيما علمت ؟ ابن آدم ، ماذا أجبت المرسلين{[16284]} ؟
وقال أبو جعفر : عن الربيع ، عن أبي العالية : قال : يسأل العباد كلهم عن خُلَّتين يوم القيامة ، عما كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين .
وقال ابن عيينة عن عملك ، وعن مالك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحُوَّاري ، حدثنا يونس الحذاء ، عن أبي حمزة الشيباني ، عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ، إن المؤمن ليسأل{[16285]} يوم القيامة عن جميع سعيه ، حتى كحل عينيه ، وعن{[16286]} فتات الطينة بأصبعيه ، فلا ألفينك يوم القيامة{[16287]} وأحد أسعد بما آتى{[16288]} الله منك " {[16289]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ثُمَّ قَالَ { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } [ الرحمن : 39 ] قال : لا يسألهم : هل عملتم كذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا ؟
القول في تأويل قوله تعالى { فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فوربك يا محمد لنسألنّ هؤلاء الذين جعلوا القرآن في الدنيا عضين في الاَخرة عما كانوا يعملون في الدنيا ، فيما أمرناهم به وفيما بعثناك به إليهم من آي كتابي الذي أنزلته إليهم وفيما دعوناهم إليه من الإقرار به ومن توحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن بشير ، عن أنس ، في قوله : فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ قال : عن شهادة أن لا إله إلاّ الله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن بشير بن نهيك ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ قال : «عَنْ لا إله إلاّ الله » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن بشير ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قولفَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال : عن لا إله إلاّ الله .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن هلال ، عن عبد الله بن عُكَيْم ، قال : قال عبد الله : والذي لا إله غيره ، ما منكم أحد إلاّ سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، فيقول : ابن آدم ماذا غرّك مني بي ابن آدم ؟ ماذا عملت فيما علمت ابن آدم ؟ ماذا أجبت المرسلين ؟
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال : يُسأل العباد كلهم عن خَلّتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون ، وعما أجابوا المرسلين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا الحسين الجعفي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي عن ابن عمر : لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال : عن لا إله إلاّ الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنّهُمْ أجمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ . ثم قال : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلا جانّ قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول لهم : لِمَ عملتم كذا وكذا ؟
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أنزل الله تعالى ذكره : فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ فإنه أمر من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه .
الفاء للتفريع ، وهذا تفريع على ما سبق من قوله تعالى : { وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل } [ سورة الحجر : 85 ] .
والواو للقسم ، فالمفرع هو القسم وجوابُه . والمقصود بالقسم تأكيد الخبر . وليس الرسول عليه الصلاة والسلام ممن يشكّ في صدق هذا الوعيد ؛ ولكن التأكيد متسلطّ على ما في الخبر من تهديد معاد ضمير النصب في { لنسألنهم } .
ووصف الربّ مضافاً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن في السؤال المقسم عليه حَظّاً من التنويه به ، وهو سؤال الله المكذّبين عن تكذيبهم إياه سؤال ربّ يغضب لرسوله عليه الصلاة والسلام .
والسؤال مستعمل في لازم معناه وهو عقاب المسؤول كقوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم } [ سورة التكاثر : 8 ] فهو وعيد للفريقين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{عما كانوا يعملون} من الكفر والتكذيب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
فوربك يا محمد لنسألنّ هؤلاء الذين جعلوا القرآن في الدنيا عضين في الاَخرة عما كانوا يعملون في الدنيا، فيما أمرناهم به وفيما بعثناك به إليهم من آي كتابي الذي أنزلته إليهم وفيما دعوناهم إليه من الإقرار به ومن توحيدي والبراءة من الأنداد والأوثان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
{فوربك} قسم، أقسم الله تعالى: {لنسألنهم أجمعين} قال بعضهم: الخلائق كلها كقوله: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} (الأعراف: 6) أخبر أنه يسألهم جميعا: الرسل عن تبليغ الرسالة والذين أرسل إليهم عن الإجابة لهم.
قال بعضهم: قوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين} هؤلاء الذين سبق ذكرهم: {المقتسمين} {الذين جعلوا القرآن عضين} والذين استهزأوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. يسألهم عن حجج ما فعلوا والمعنى الذي حملوهم على سوء معاملة رسوله وكتابه: لأي شيء نسبتم رسولي وكتابي إلى سحر والكذب والكهانة والافتراء على الله؟ لا يسألون: ما فعلتم؟ وأي شيء عملتم؟ لأن ذلك يكون مكتوبا في كتبهم، يقرؤونه كقوله: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} (الإسراء: 14) هو: وعيد شديد في نهاية الوعيد والشدة لأنه وعيد مقرون بالقسم، وكل وعيد، قرن بالقسم فهو غاية الشدة، إذ لو جاءنا هذا الوعيد من ملك من ملوك البشر يجب أن يخاف، فكيف من ربنا؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وعن أبي العالية: يسأل العباد عن خلتين: عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
{فوربك لنسألنهم} إلى آخر الآية، ضمير عام ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن لا إله إلا الله وعن الرسل وعن كفره وقصده به، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، والإمام عن رعيته، وكل مكلف عما كلف القيام به...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... وفيه من التشديد وتأكيدِ الوعيدِ ما لا يخفى...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
...وفي هذا أعظم ترهيب وزجر لهم عن الإقامة على ما كانوا عليه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
(الفاء) للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه ترتب على اقتسامهم للقرآن، وجعله متفرقا في زعمهم الباطل، وإيغالهم في الشرك والفساد إيغالا أضل عقولهم وأقوالهم وأعمالهم أن أقسم الله بربوبيته، ليسألن عما كانوا يعملون، وكان القسم بقوله تعالى: {فوربك} للإشارة إلى أن ذلك من الحياة لرسالتك وجزاء اقترافهم عليها وجحودهم لها.
وجواب القسم {لنسألنهم أجمعين}، وقد أكد سؤالهم ب (نون التوكيد)، وب (لام القسم)، وبكلمة {أجمعين}، أي أنه لا يعزب أحد عن السؤال...وأن الله تعالى عنده علم كل شيء، وأسند السؤال إليه سبحانه؛ لبيان جلال الأمر، وعظم ما يرتكبون، وإن كانوا يلهون ويلعبون بما يفعلون، فالله لا يتركهم، وما الله بغافل عما يعملون.